عمر قدور

 لم يسبق، منذ انطلاق الثورة، أن كانت المعارضة السورية على حالتها الراهنة من الضعف، على رغم كل ما كان يُقال من قبل عن تشرذمها أو تواضع أدائها. وإذا تراكمت خلال سبع سنوات عوامل عديدة من الأخطاء، ومن خذلان السوريين، فالضربة القاضية التي ربما أودت بهذه المعارضة أتت من أنقرة، ولا يدعو ردّ فعل المعارضة عليها إلى الاستغراب إذ كان في منتهى السلبية والرضوخ، إذا لم نقل أنه أسّس لمرحلة أسوأ من التبعية.

مشاركة المعارضة في الهجوم التركي على عفرين، سواءً بتغطية سياسية من الائتلاف أو بمشاركة عسكرية تبنتها الحكومة الموقتة التابعة له، أتت تتويجاً لمسار من الارتهان للسياسة التركية. ذلك لا يمنع من تنحية التكاذب الوطني جانباً وهو أصلاً غير مقنع لطرفيه، فالحرب بين فصائل معارضة والميليشيات الكردية ليست مستجدة، والجدل الذي أحاط بمعركة عفرين أخيراً أبلغ تأثير له سيكون التأسيس لحرب أخرى مقبلة بين الأكراد والعرب لاعتبارات محلية صرفة.

الحديث عن الارتهان يَستثني المرحلة التي كان فيها تقارب شديد في الأهداف بين المعارضة وأنقرة، أي عندما وحّدتهما الرغبة في إسقاط الأسد، وكان الموقف التركي خلالها حازماً وإن أتى لأجندته الخاصة، أو اعتمد الرؤية الأردوغانية بعبئها الأيديولوجي. تالياً، يُستثنى من الحديث عن الارتهان من يمكن تسميتهم الأردوغانيين السوريين، وهم أصحاب ميول إسلامية بغالبيتهم، مع هوى خاص بالخطاب الشعبوي لأردوغان يعمي أبصارهم عن أخطاء محبوبهم حتى إذا أتت على حسابهم.

يبقى مع تلك الاستثناءات واقع لا بد من الإقرار به، فتركيا تستضيف أكبر عدد من اللاجئين السوريين، وهي الدولة الوحيدة التي سمحت أحياناً بإمداد فصائل معارضة بلا ضبط تام من المخابرات الأميركية، وفيها مقر الائتلاف الذي اعترفت به العديد من الدول كممثل للثورة السورية. وانطلاقاً من الأراضي التركية تنشط منظمات إغاثة دولية ومحلية، وعبرها أيضاً جرى نقل العديد من الإصابات والوثائق التي تؤكد جرائم إبادة جماعية ارتكبتها قوات الأسد مثل الهجوم بالسلاح الكيماوي على خان شيخون.

الإحاطة بتفاصيل الوجود والنشاط السوري في تركيا تحتاج بحثاً منفصلاً، ويمكن اختزاله فيما لو تخيلنا حالة معاكسة، تكون فيها الحكومة التركية متحالفة مع سلطة الأسد فيُحكم الحصار عملياً من كل الجهات، وربما لا نحتاج مخيلة لتصبح هذه الفرضية واقعاً في المدى المنظور. في كل الأحوال، هذه الحالة من الحاجة الماسة تضع الحكومة التركية في موقع من يفرض شروطه على نشاطات المعارضة وتوجهاتها، وتضع شروطاً حتى على عمل بعض المنظمات الإغاثية أو التعليمية تحت طائلة حظر نشاطها، وقد حصل هذا تارةً بتهمة عمل بعض المنظمات في نطاق سيطرة داعش وتارة بتهمة عملها في نطاق سيطرة الميليشيات الكردية.

بدءاً مما أشيع عن صفقة تركية- روسية لتسليم مدينة حلب مقابل سيطرة تركية على الباب وجرابلس، صار واضحاً أن النفوذ التركي على المعارضة بشقيها السياسي والعسكري يهدف إلى خدمة التحالف المستجد مع موسكو. ويمكن القول أن المعارضة رضخت مرغمة لمتطلبات مسار آستانة العسكري، وهي لا تملك سوى الإذعان للجهة التي تتحكم بالحدود وبخط الإمدادات، مع أن خفض التصعيد كان يُخترق طوال الوقت من قبل الطيران الروسي وميليشياته الحليفة على الأرض. بعبارة أخرى، تولت أنقرة بالتنسيق مع موسكو وطهران طي صفحة الخيار العسكري، كخيار معلن لإسقاط النظام بصرف النظر عن مثالبه أو انعدام جدواه في غياب دعم وحماية دوليين.

تعاطي أنقرة يمكن تشبيهه بتعاطي إدارة أوباما، عندما عرضت الأخيرة تشكيل جيش تقتصر مهمته على محاربة داعش، وفشل مشروعها آنذاك عربياً ثم تولت الميليشيات الكردية تنفيذه. ما رفضته فصائل معارضة من إدارة أوباما لم تستطع رفضه من الحكومة التركية، عندما أعطت الأفضلية لقتال داعش في الباب وجرابلس، ثم عندما أعطت الأولوية للهجوم على عفرين والرضوخ لصفقة جديدة في إدلب.

على المستوى السياسي، أجبرت الحكومة التركية «حصتها» من المعارضة على الالتحاق بمؤتمر سوتشي، ولو مواربة عبر الحكومة الموقتة أيضاً، وكأن وظيفة الأخيرة تحولت إلى تـــسويق ما يخجل الائتلاف من تبـــنّيه علناً. وإذا فشل المؤتمر بسبب مقاطعته غربياً فردّ الفعل التركي الغاضب كاد أن يساوي رد موسكو نفسها، وأيضاً على المنوال ذاته لجهة اتهام واشنطن بالعمل على التقسيم، ما يدلل على الحد الذي وصلت إليه السياسة التركية من تفاهم وتنسيق مع موسكو، وأيضاً ما يدلل على الحد الذي ستقود إليه أنقرة المعارضة السورية من قبول بالمخطط الروسي للإبقاء على بشار.

يمكننا تخمين أنواع الضغوط التي تلقتها المعارضة قياساً إلى تلك التي واجهتها منظمات للإغاثة أو العمل المدني، وحتى قياساً إلى تصرف السلطة التركية إزاء معارضيها الأتراك. نستطيع أيضاً تخيّل حجم الضغط الثأري على السوريين العاديين، فالحكومة التركية أغلقت الحدود منذ زمن طويل أمام اللاجئين، وقام حرس الحدود بإطلاق النار على الذين لم يسعفهم حظهم بالتسلل عبرها، وقد يصبح امتداح تعاطي الحكومة مع اللاجئين بالمقارنة بدول الجوار من الماضي عبر إجراءات تزداد تشدداً إزاءهم، برز منها مؤخراً عدم السماح بتنقل اللاجئين خارج الحدود الإدارية لإقامتهم إلا بناء على إذن مسبق من السلطات.

عندما يكون هناك سياق متكامل لتغير السياسة التركية، إذا لم يطرأ تطور دراماتيكي باستعادة التفاهم مع الإدارة الأميركية، فذلك يعني أن على المعارضة السورية حزم حقائبها والرحيل طالما أن الرد العقابي لن يكون أسوأ مما هو مطلوب منها. المعارضة ذاتها لا تشرف أصلاً على الوجود السوري في الشتات، وبعد انقضاء الخيار العسكري واقتصاره على مستلزمات الأمن القومي التركي لا معنى للتعويل عليه.

موضوعياً، بات بقاء قسم من المعارضة تحت الجناح التركي بمثابة انضواء في الحلف الذي يصل إلى بشار الأسد، ومهما كانت صعوبة ذلك فمن الأفضل لهذه المعارضة «الفطام» عن أنقرة. ربما يذكّر هذا بصعوبة رحيل منظمة التحرير الفلسطينية عن بيروت، لكن الأيام أثبتت أن تقدُّم القضية الفلسطينية يحتاج إلى ما هو أهم من الوجود قرب حدود فلسطين.