حازم صاغية

 في 1992، دعا البطريرك المارونيّ حينذاك نصر الله صفير إلى مقاطعة الانتخابات النيابيّة. فلا انتخابات، في رأيه، ما دامت القوّات السوريّة في لبنان، فيما مهجّرو الجبل لا يستطيعون العودة إلى قراهم.

القوى المسيحيّة الوازنة وافقته الرأي. سمير جعجع كان مستضعفاً. ميشال عون كان في المنفى. أمين الجميّل وريمون إدّه كانا في منفى اختياريّ. داني شمعون كان قد افتُتح العهد الجديد باغتياله.

1992 كانت له دلالة رمزيّة أخرى: عامذاك قرّر «حزب الله» دخول العمليّة الانتخابيّة بعد استشارة الإمام علي خامنئي الذي أفتى إيجاباً. الحزب أحسّ بأنّ البيت صار بيته: «عروبة لبنان» السوريّة اقترنت بـ «سلاح المقاومة» الإيرانيّ. هكذا تكرّس إعفاء الحزب من نزع السلاح الذي فرضه اتّفاق الطائف على الميليشيات. المسارعون إلى التهليل سارعوا إلى قراءة مشاركة «حزب الله» في الانتخابات على أنّها «لبننة الحزب».

1992 كان أيضاً العام الذي شكّل فيه رفيق الحريري حكومته الأولى. لقد قُدّم بوصفه المنقذ من انهيار اقتصاديّ قادت إليه حكومة عمر كرامي. الحريري صارت وظيفته تزيين البيت، بيت حزب الله والقوّات السوريّة. لكنّ رغبته في إنجاح التزيين اندفعت بعيداً بحيث تجاهل النظام العميق الذي يحكم البيت. لقد غضّ النظر عمّا لا يُغضّ عنه النظر: السلطة – الفعليّة – لمن؟

بحماسة الأماني والرغبات تمكّن الحريري من إقناع المسيحيّين بأن يكفّوا عن المقاطعة، وضمناً بأن ينسوا ما لا يُنسى، أي القوّات السوريّة و «حزب الله».

نظريّة صفير انتهى مفعولها بإقبال بعض القوى المسيحيّة الوازنة، وإن لم يكن كلّها، على العمليّة الانتخابيّة. نظريّة الحريري، في المقابل، بدا أنّها المنتصرة لأنّها «الواقعيّة». بلغة «الحِكَم» الريفيّة اللبنانيّة: النظريّة الأولى «تقتل الناطور». الثانية «تأكل عنباً».

وبالفعل ظلّت الحريريّة تنتصر إلى أن قُتل صاحبها! طعم العنب، إذاً، بالغ المرارة والحموضة. آثاره الضارّة ظهرت لاحقاً على الجسد اللبنانيّ.

في مرحلة ما بعد 2005 تغيّرت معطيات أساسيّة: أُخرج الجيش السوريّ من لبنان. عاد عون من منفاه. أُطلق سراح جعجع. أجريت عامذاك انتخابات نالت فيها قوى 14 آذار الأكثريّة، وهو ما تكرّر في 2009.

لكنّ تغيّر المعطيات لم يغيّر الكثير. السلطة الفعليّة باتت في يد الحزب الذي حلّ في الموقع التقريريّ الأوّل محلّ الأمن السوريّ. العقيدة الرسميّة، الدائرة حول المقاومة، لم تتغيّر كثيراً. حرب 2006 و «انتصاراتها» حَشَـتْها بمزيد من القداسة. هجوم 2008 على بيروت أظهر أنّ أنيابها من حديد فيما أسنان العمليّة الانتخابيّة ونتائجها من حليب.

في المقابل، وبكثير من التعرّج، ظلّت الحريريّة نظريّة لتزيين البيت، بقدرات أقلّ وكفاءات أدنى وظروف إقليميّة ودوليّة أسوأ، وهذا فضلاً عن أعداد من الضحايا ذهب دمهم هدراً.

هذا الاستعراض يقول إنّ الانتخابات قد تتأثّر بأحداث خارجها، لكنّها حكماً لا تؤثّر فيها. بالتالي، لا معنى للانتخاب في ظلّ خليط من سلطة مؤسَّسة على القوّة تستحيل مساءلتها ومنظومة سياسيّة – أيديولوجيّة لا تقبل المعارضة، ناهيك بالإزاحة.

تلك الحقيقة كانت صحيحة في 1992، وهي أكثر صحّةً في يومنا هذا.