ياسين أحمد

* ماذا كان رد فعل الملك فهد حين علم بأن خليفة تاتشر ليس لديه منزل في لندن؟

* لماذا خرج الأمير سلطان من «قمة العاشرة والنصف» مرارا؟


* الملك فهد لميجور: لن أناقش قضايا أخرى ما لم يُحسم الغزو العراقي

* الوقائع التاريخية عرّت «الإسلامويين المتطرفين» وأكدت أن قرار المملكة صائب

* بريطانيا توافق السعودية على ضرورة انسحاب عراقي كامل وغير مشروط من الكويت


* القمة كانت مسرحاً تجلَّى فيه ذكاء العاهل السعودي وبراغماتيتهفي سياق تصفحها ملفات الوثائق الحكومية البريطانية التي نُزعت عنها صفة السرية في 31 ديسمبر 2017، بعد 30 عاماً من الحجب، بحسب القانون البريطاني؛ اطلعت «عكاظ» على المكاتبات والمذكرات التي تبادلتها الجهات الحكومية البريطانية المختصة مع مقر رئاسة الحكومة، المنزل رقم 10، داوننغ ستريت، بشأن أول اجتماع لرئيس الوزراء المحافظ الجديد جون ميجور مع العاهل السعودي الراحل الملك فهد بن عبدالعزيز آل سعود، وهو أول من استخدم لقب «خادم الحرمين الشريفين» بمرسوم ملكي. وعقدت القمة السعودية - البريطانية في الرياض، وسط أجواء سياسية مضطربة في المنطقة العربية، من جراء إقدام الرئيس العراقي الراحل صدام حسين على غزو الكويت في أغسطس 1990. وهي أوضاع لم يكتب للمنطقة أن تطيب من إفرازاتها حتى اليوم! التقى ميجور، الذي جاء للحكم بعد إطاحة متمردي حزب المحافظين برئيسة الوزراء السابقة مارغريت تاتشر، بالملك فهد في الساعة العاشرة والنصف مساء. واستمرت المحادثات حتى الثانية عشرة والربع فجر اليوم التالي. كانت وزارة الخارجية البريطانية - بحسب الوثائق التي سمح لـ«عكاظ» بمطالعتها - أبلغت رئيس الوزراء مسبقاً بأن الملك فهد سيبدأ اجتماعه بحديث يدوم نحو 45 دقيقة. وأنه يتوقع أن يرد ضيفه على كلمته بحديث مماثل، ولكن ليس بالضرورة أن يتحدث الضيف لمدة 45 دقيقة.

حضر الاجتماع من الجانب السعودي ولي العهد الأمير عبدالله بن عبدالعزيز، ووزير الدفاع والطيران والمفتش العام الأمير سلطان بن عبدالعزيز، ووزير الخارجية الأمير سعود الفيصل - رحمهم الله جميعاً - و«خمسة إلى ستة آخرين». وباطلاع «عكاظ» على ملفات النبذة الشخصية (بروفايلات)، التي أعدَّها فريق مستشاري رئيس الوزراء ميجور، لأهم الشخصيات السعودية آنذاك، فيمكننا أن نخمِّن بدِقَّة عالية أن ممن حضروا القمة العاهل الحالي الملك سلمان بن عبدالعزيز، وكان أميراً لمنطقة الرياض في ذلك الوقت. والأمير محمد بن فهد بن عبدالعزيز، وكان أميراً للمنطقة الشرقية. ويشير «البروفايل» الذي كتب عنه إلى أنه يقف وراء تعزيز اللحمة الوطنية لدى سكان المنطقة الشرقية. ومنهم أيضاً وزير الصحة آنذاك فيصل بن عبدالعزيز الحجيلان، الذي وصفه أعوان ميجور بأنه «دبلوماسي بامتياز».

وتشير الوثائق إلى أن وزير الدفاع والطيران الأمير سلطان بن عبدالعزيز (الذي أضحى لاحقاً ولياً للعهد قبل وفاته، رحمه الله) خرج من غرفة الاجتماع بضع مرات، إذ كان يتلقى تفاصيل عن انشقاق 6 قائدي مروحيات عراقية، هربوا بطائراتهم من العراق. وبمراجعة الإفادات التي تلقاها ميجور من مساعديه قبل مغادرته لندن إلى الرياض، نلاحظ أنه أبلغ بأن الملك فهد بن عبدالعزيز تلقى تعليماً عادياً، لكنه ذكي، ولماح، وله خبرات متراكمة، من خلال الثقة الكبيرة والملفات العديدة التي أوكلها له أخوه العاهل الراحل خالد بن عبدالعزيز آل سعود؛ إذ كان الملك فهد ولياً لعهده. ولم يخيِّب الملك فهد توقعات أعوان رئيس الحكومة البريطانية. فقد كانت قمته مع ميجور مسرحاً تجلى فيه ذكاؤه، واعتزازه بانتمائه إلى وطنه، وبراغماتيته الحقيقية. وأبلغ الملك فهد رئيس الوزراء بأن صدام حسين سيختلق ذريعة لتفادي الانسحاب الكامل من الكويت. والمذهل أن الملك فهد كان قاطعاً ودقيقاً في ما قاله. إلى درجة أنه توقع أن يتصرف صدام بتلك الطريقة بحلول 15 يناير. وكما أنبأنا التاريخ فإن ذلك هو عين ما حدث. وهو ما اضطر القوات المتحالفة لبدء هجومها الجوي على العراق في 16 يناير.

وباستقراء متريث للوثائق البريطانية، بدا أن الملك فهد هيمن تماماً على تلك القمة. ويعزى ذلك لتمكُّنه من القضايا الموضوعة على جدول أشغال اللقاء مع ميجور. وهو تمكن أتاح له وضع الأجندة. وكانت بيده جميع أدوات النفوذ. فقد أبلغ الملك مضيفه بأنه لن يناقش أي شيء يتعلق بالترتيبات الأمنية الخاصة بالمنطقة إلى حين حسم المسألة العراقية - الكويتية بشكل نهائي. ولذلك فإن هذه الوقائع التاريخية تعرِّي الإسلامويين المتطرفين الذين اعتبروا تحالف الدول الإسلامية والعربية مع الدول الغربية، بهدف تحرير الكويت، خضوعاً من المسلمين للغرب. فقد أثبت التاريخ أن حرب تحرير الكويت كانت الطريقة السليمة الوحيدة لضمان أمن منطقة الخليج، ووقف صدام حسين عند حده. وقد تمسك الملك فهد، في الاجتماع، بقراره الصائب السماح للقوات المتحالفة بدخول السعودية لشن معركة تحرير الكويت. وهو قرار لم يرضخ فيه الملك فهد - رحمه الله - للأصوات الإسلامية المتشددة داخل المجتمع آنذاك. وتطرق اللقاء، بشكل مقتضب، للتعاون العسكري بين البلدين، من خلال ما يعرف ببرنامج اليمامة. كما ناقش الزعيمان اتفاقاً يحدد نسبة مساهمة دول الخليج في المعونات. وتحدث رئيس الوزراء عن مواطن بريطاني احتجز في السعودية لسبب ما. وقد أمر الملك فهد بحل المشكلة، ما أثار ارتياح ميجور بدرجة ظاهرة.

ولا يمكن الوقوف عند كاريزما الملك فهد، وكرمه، ونبل أخلاقه، دون التعرض لحادثة مهمة تذكرها الوثائق البريطانية. فقد نما إلى علم الملك فهد أن وزير الخزانة البريطاني (رئيس الوزراء لاحقاً) جون ميجور لم يكن يملك بيتاً في لندن، حين تسارعت التقلبات السياسية، وأخرجت تاتشر من رئاسة الوزراء، لتأتي به خلفاً لها. فما كان من الملك فهد إلا أن عرض بأريحية وكرم أن يقيم ميجور في جزء من منزل العاهل الراحل في لندن، إلى حين حل مشكلة سكناه. ومما يلفت الانتباه في وثائق وزارة الخارجية ورئاسة الحكومة أن الملك فهد كان أول من حذر العالم من أن صدام حسين يعمد للاحتيال والمراوغة. فقد أكد العاهل السعودي الراحل أن الجيش العراقي الذي احتل الكويت لن يصمد بوجه أي هجوم مضاد، وأن ما يقوله صدام لا يعدو أن يكون تهديدات جوفاء. وقد أعرب ميجور، في حديثه للملك فهد، عن شكره للعاهل السعودي على اتخاذه موقفاً شجاعاً ضد الغزو العراقي للكويت، ودوره في تكوين تحالف دولي ضد صدام حسين. وأكد للملك فهد أنه يوافقه في رأيه القائل إن انسحاب صدام من الكويت يجب أن يكون كاملاً، وغير مشروط.

ولم يكن الملك فهد - بحسب الوثائق البريطانية - هياباً في إسداء النصح لضيفه، أيا كان مركزه. فقد حض رئيس وزراء بريطانيا ميجور على التحوط من تعليق آمال عريضة على شيء في بطن الغيب، حتى لا يقوده ذلك للشعور بمرارة الخيبة، إذا لم يتحقق أمله. وذكّر ميجور بالسيناريو الأسوأ: إذا قرر صدام حسين الانسحاب لاستجماع شتات جيشه. وقال الملك فهد لميجور إن الإستراتيجية العاقلة تقضي بضرورة نقل المعركة إلى صدام في العراق. لكن الملك فهد قال أيضاً إن الوجه الآخر للمسألة يتمثل في أن صدام ليس لديه سند شعبي كافٍ داخل العراق، وينبغي أن يوضع ذلك في الحسبان، إذا تم إرغامه على سحب قواته من الكويت.

وهو تفكير غاية في التعقل والرشد، إذ إن صدام لم يكن يسيطر بالكامل على جميع أنحاء العراق، إلى درجة أن كثيراً من العراقيين لن يستجيبوا لمناشدته لهم أن يموتوا من أجل سياساته. وأن مغامرات العراق في المنطقة، بقيادة صدام حسين، لا تمثل تطلعات وطنية بالنسبة إلى العراقيين، بل هي الذات الصَّدَّامية، وشهوة صدام للسلطة والهيمنة، والتمدد.

ولا بد من الإشارة إلى أن رئيس الوزراء ميجور التقى الملك فهد بن عبدالعزيز مرة ثانية في 6 مارس 1991. غير أن وثائق تلك القمة الثانية لن يكون متاحاً الاطلاع عليها إلا بحلول نهاية العام 2021.