محمد الرميحي

 استخدام الدين في السياسة ليس بالأمر الجديد، إذ منذ أن عرف الإنسان «الدين» بمعناه العام، عرف أيضاً كيف يوظفه ويستخدمه من أجل الدفع بمصالحه الذاتية! والإسلام ليس استثناءً، فقد وظفته كل من الإمبراطورية البريطانية، من أجل تحقيق مصالحها، من خلال إعلان «الجهاد» في الحرب العالمية الأولى، لحشد مشاعر المسلمين، وبخاصة في الهند، للالتحاق بجيشها ورفده برجال مقاتلين، كما فعلت الإمبراطورية الألمانية بالضبط منذ فيلهلم الثاني، حتى أدولف هتلر! أيضاً لحشد الأنصار ضد العدو، وتمكين المصالح الألمانية! حسن البنا استمد فكرة تنظيمه الحلقي، من التنظيم الحديدي النخبوي، الذي أسسه هتلر تحت اسم «إس إس»، ولم يكن ذلك التنظيم إلا مرتكزاً على فكرة مسيحية قديمة، بناء «مجتمع نخبوي له مهمات ربانية»! أي إقصاء غير المتماثل وتهميش المختلف.

على مدى قرن تقريباً في عالم العرب، تجمعت ظروف سياسية مختلفة ممتزجة مع أوضاع اقتصادية اجتماعية سياسية، لتخرِج في النهاية شيئاً من الحركة الاجتماعية، سميت «الصحوة»، قليل من المتابعين انتقدوا تلك الفكرة وقتها، من بينهم، وربما يعجب البعض، الشيخ المرحوم محمد الغزالي، الذي نشرت له مجلة «العربي» مقالاً بهذا المعنى في الثمانينات من القرن الماضي، أما الدكتور أحمد أبو المجد، فقد ساهم أيضاً في نقد «الحركة» الواسعة، وبخاصة أطرافها «المغالية» في عدد من المقالات في المجلة نفسها، كانت بعنوان جامع «حوار لا مواجهة» نشرت في كتاب مستقل بعد ذلك، في الكويت وفي القاهرة! الصحوة، كحركة لم تكن مُوحدة؛ كان بها الكثير من ألوان الطيف في الاجتهاد الفرعي، والأهداف النهائية، إلا أنها كانت «تخدّم على بعضها» أمام منتقديها، انحاز إليها كثيرون بدرجات مختلفة، ولأسباب مختلفة، إما عن إيمان، أو ربما عن انتهازية ظاهرة أو مبطنة للاستفادة من مردودها المادي والمعنوي. الصحوة بمعناها العام، التنظيمي والفردي، كانت محطة للحشد والتجنيد في صفوف جماعات، إما ذات هدف «دعوي»، كما تراه، أو لجمع التبرعات لمشروعات عادة تسمى بأسماء جاذبة، أو حتى في بعضها للتجنيد في صفوف «المجاهدين» حاملي السلاح. وشهدت فترة الثمانينات من القرن الماضي تدفقاً وانتشاء بالفخر؛ كونهم تحت تلك المظلة فكانت حشود من الشباب «الصحويين» تذهب إلى أصقاع الدنيا لـ«الجهاد»، من أفغانستان حتى الشيشان، وليس انتهاء بالبوسنة! وانتهى بعضها في تنظيمات مثل «القاعدة» و«داعش»، وما زال بعض آثارها (أي الصحوة) مبثوثاً في مناطق كثيرة من عالمنا العربي المسلم، أي أنها لم تنتهِ، لسببين؛ أولاً لأن الأسباب العميقة لظهورها وانتشارها ما زالت مفاعيلها قائمة، والسبب الآخر الاحتكار التفسيري لمعالجة ما ظهر من الأمراض الاجتماعية بمقولات تراثية قاطعة ونهائية، حتى وصل الأمر إلى حد «التكفير» ضد أي شخص يُشرع قلمه في مناقشة مقولات جماعة «الصحوة»، فما بالك بنقدها وبيان أخطائها! لقد كان نقد الممارسة والتفسير، يترجم تلقائياً في تقاليدهم بأنه نقد للدين!
شخصياً، لا أرى ضرراً من أن رجل الدين يعمل في السياسة، ذلك حقه الذي لا ينكر عليه، كما لا يُنكر على أي مواطن، اعتراضي أن «يُسيس الدين»، أي أن تقهر نصوصه من أجل خدمة غرض دنيوي، وقتها يخرج من السياسة، التي هي بطبعها نسبية، وتحتمل الصواب والخطأ، إلى القطعية، التي يدعي فيها «الصحوي»، أنه هو فقط، لا غيره، موكل بالبشر، كيف يتصرفون في منامهم ومعاشهم! لا يمكن لأي مجتمع أن يتخلى عن «قناعته الدينية» أو أي فرد عاقل وسوي. كتب كثيرة من تأليف كبار المفكرين تملأ الفضاء المكتبي، وعقول نيرة، وكذلك الفطرة، تقول لنا جميعاً إن الدين هو من أسس حياة الإنسان، ولم يُوجد إلا لحاجة إنسانية ملحة يشعر بها الإنسان.. الخطأ الفادح هو ليس في الدين، بل فيمن يُحمّله أهواءه من البشر، فقد استُخدم في تاريخ البشرية تكراراً من أجل الصراع، القومي أو العقدي أو الاجتماعي أو السياسي، ولا أكثر من ضحايا الصراع بين البروتستانت والكاثوليك في أوروبا من القرون الماضية، حتى صراع شمال آيرلندا قبل عقود قليلة، وما زالت آثار تلك الصراعات مبثوثة في أركان المتاحف في معظم مدن أوروبا، بل في بعض المدن الصغيرة يقول لك الدليل السياحي، هذه المدينة احتُلت أكثر من مرة، إما من البروتستانت أو الكاثوليك، وفي كل مرة يُقتل المئات من أبنائها على يد الطائفة الأخرى، إن لم يكن أكثر! قلت إن عدداً من الظروف الذاتية والموضوعية قد ساهمت في نشأة وظهور «الصحوة» في فضائنا العربي منذ قرابة قرن تقريباً، وتشكلت متدرجة بوجوه مختلفة وتحولات تتواءم مع المتغيرات، أما صلبها فبقي كما هو؛ استدعاء الماضي لمواجهة مشكلات الحاضر! وافترض القائمون عليها أن لديهم «كل الحلول للمعضلات التي تواجه الجماعة العربية» فليس على الآخرين إلا السمع والطاعة، وامتلكت الصحوة، بهذا المعنى «حق الزجر وحق الإكراه»، ووصل بعض دعاتها إلى مرحلة وضع أنفسهم في موضع «المعصومية»، نافين عن أنفسهم ضعف البشر الطبيعي، واحتمال وقوعه في أخطاء مميتة، كان ذلك ادعاء يراد بها التجهيل، وهكذا بدت في الأفق مؤسسات مالية «دينية»، وعلوم اجتماعية «دينية»، بل وعلوم «بحتة أو تطبيقية» دينية! وحتى الطب لحقه الأمر! وبطبيعة الأشياء، فإن ترويض المجتمع وفقد مناعته إن تم، فقد أصبح من حق المروضين «الدعاة»، أن يتحولوا إلى سياسيين، لكن سياسيين من نوع مختلف، تماماً يمكن أن يسموا «سياسيين كهنوتيين»، وبدا في الأفق سيل من الكتابات والفتوى «التي تقتطف من بعض كتب التراث» ما يناسب أهواءها، وتقدمه إلى العامة، إنه المطلق والنهائي وهو «القويم»! ضاربة بعرض الحائط الاستخدام العقلي للنصوص من جهة، والاستخفاف بالاجتهادات الأخرى المختلفة، وهي طريقة ليست بعيدة عن طريقة «قدس الأقداس»، النخبة المؤمنة بمصفوفة فكرية، تقودها إلى التعصب، وتقوم بما يطلب منها دون سؤال أو حتى مراجعة، مهما كانت المهمة! المجاري الضعيفة التي تم التسامح معها تحولت مع الزمن إلى مجرى متوسع اجتاح كل من كان أمامه، حتى وصل الجميع إلى ظاهرة يسميها العالم اليوم «الإرهاب». لم تكن تلك «الصحوة» غير موظفة، ومن جديد، من قوى عالمية، فقد وظفت في الأول من خلال الزج بمجنديها في أفغانستان، ومن ثم في أماكن أخرى، حتى انتفت القيمة المضافة لأفرادها، فتحول الغرب إلى شعار «الإسلاموفوبيا»، ونخبته تعرف حق المعرفة، أنه ليس الإسلام بمعناه الديني، بل ببعض المسلمين الذين مُنع عنهم التفكير الصحي والصحيح!
الافتراض أن «الصحوة» انتهت، هو افتراض متعجل، وربما ذلك الافتراض مضلل أيضاً؛ لأنه بوجود واستمرار تعليم تلقيني، وإعلام فاقد الوعي، فإن فحيح تلك المجموعة «الصحوية» ما زال يُسمع ويسمَع في أماكن مختلفة، ما دام كثيرون، لا يفرقون منهجياً بين «التعليم» في مدارسنا وجامعاتنا، وبين «التعلم» المطلوب، والأخير هو اكتساب مهارات نقدية ومعرفية، من خلال الاطلاع الواسع على مدارس وأفكار وتجارب مختلفة، واعتبار النقد هو أساس المعرفة، بيد أن «التعليم» هو الحفظ والتسميع لا غير! كما ما زالت هناك تدفقات فكرية في المحيط العام، تبث المعلومات والتفسيرات الخاطئة، بل والمضللة معلقة على تفسير ديني، يعضدها انتشار واسع لاستخدام وسائل التواصل الاجتماعي، مع خيط رفيع من التوظيف السياسي الذي يتلون بألوان جديدة. في مثل هذا الفضاء من الحمق الافتراض أن «الصحوة» قد تلاشت، ذلك يحتاج إلى إرادة مجتمعية، تضع الأولويات وتفاصل بين الخيارات، وفي تقديري أن تلك الإرادة في عالم عربي موبوء بحروب أهلية وبينية، تأكل الأخضر واليابس، مفتقدة، بل قد تهيئ كل الفوضى التي نعيش «لشكل آخر من صحوات القرن الواحد والعشرين»! قد تختلف في مظهرها الخارجي، لكن تتماثل في مخبرها الداخلي، وجملته «استخدام الدين قسر في السياسة»!

آخر الكلام:
تبديد الأوهام «الصحوية» يبدو أكثر صعوبة في فضاء إلكتروني مفتوح، وبيئة ثقافية منزوعة المناعة النقدية. الحل هو فتح الحوار حول الظاهرة على مصراعيه؛ لأن الأشباح تخاف النور!