أحمد الحناكي

مؤلم ومبكٍ هو الفراق، ومؤلم أكثر أن يكون المغادر رمزا كبيراً نقياً اسمه علي العنيزان، غادر مساءً إثر حادثة سيارة أليمة. صعب أن تعدد مآثر ومناقب أبي راكان، فهو الميزان الذي يجمع الأصدقاء بمختلف مشاربهم، ومنذ باكورة شبابه حمل هم الوطن وقدمه على كل شيء.

يوم رحيله هاتفه أخي فهد وتحدثا عن خطأ طبي كاد أن يؤدي بحياة صديقهما وصديقنا المشترك الرائع عبدالله الفريحي (أبو طفول) ونجا منه لحسن حظه وحظنا جميعاً، وأردف فهد باكيا إياه: «إنه كان سندا هائلا منذ أن تعرف عليه قبل 45 عاما، إذ كان طالبا في أول سنواته الدراسية في الجامعة، بينما كان علي موظفاً»، مسترسلا أنه لم يحدث طوال هذه الفترة أن صدرت منه كلمة جارحة أو أي إساءة؛ فنبله ولطفه وإنسانيته لا تدع له ولا لمن أمامه أي مجال للغضب، وهذا ينطبق على جميع من عرفه.

قبل أشهر عدة كتب مقالات في المجموعات، كانت آية في التنظيم والمنطق والتحليل السياسي، وتمنيت عليه أن ينشرها في أحد الصحف أو في كتاب، لكنه وكما هي العادة أبعد ما يكون عن الأضواء، وقال: «لعلي أجمعها لاحقا»، لكن ها هو القدر يسبقه، على أنه كان يكتب مقالات بين الحين والآخر، وسبق أن كتب في «الحياة» مقالة عن رواية القرصان، مفندا ببراعة كل مغالطات الكاتب القطري عبدالعزيز المحمود.

في يوم العزاء الأول تقاطرت حشود محبين علي من أنحاء الوطن الذي كان الراحل الجميل يعشقه ويتغنى بترابه، وكنا جميعا نعزي أنفسنا أولا قبل أن نعزي أخوته وألاده.

سيسجل التاريخ أن علي العنيزان، هذا الرجل الأبي الأشم، بزغ على الدنيا بريئاً نقياً وغادرها كذلك من دون خصومات أو نزاعات إلا مع من يمس الوطن وترابه، أو موقفا مبدئيا لا يتزحزح تجاه القضية الفلسطينية الخالدة، أو الرفض القاطع لكل طغاة العالم أينما كانوا.

قلوبنا تبكي قبل دموعنا رحيل صديقنا وأستاذنا، لكن ما يخفف لوعة الفراق هو روحه الفياضة التي طغت على مشهد وداعه، فقد كان متميزا في حياته وبعد رحيله.

كان شخصا استثنائيا في تعامله مع الجميع، متعاليا فيه على كل فوقية أو استعلائية أو نرجسية، وبعد رحيله تلقت عاملتنا المنزلية مكالمة من الأخرى التي تعمل في منزل علي وكانت تبكي قائلة لها لقد فقدت أبي، فقد كانت تسميه والدها للتعامل الرفيع الذي كان يبديه لها، وأضافت طوال الفترة التي عملت فيها في منزله كان طيبا ولطيفا وعاملني دائما كأنني إحدى بناته.

عزائي الكبير لرفيقة دربه الطويل المضيء رقية العنيزان، وأعلم يقينا كم هي الفاجعة كبيرة لها، ويقيني أن ما سيجعلها تصمد أمام هذه الصدمة المريعة إنما هو هذا الكم من الحب الهائل الذي يكنه الآخرين لعلي، فضلاً عما زرعاه معاً لأبنائهم وبناتهم راكان وانصار والمثنى وصبرا ويزن، وصحيح أن القيم لا تورث، غير أن من ينشأ في هذا المنزل العامر بأخلاق أصحابه ومثلهم لا بد أن يتشرب منها.

لا أنسى أصدقائنا وأحبتنا أخوته صالح وعبدالرحمن وخالد وعبدالعزيز وياسر الذين تتلمذوا على يد شقيقهم الأكبر، كم سيفتقدون ذلك العطف الأبوي وذلك الظرف الآسر وذلك التواضع الجم.. كم هو فراق مرير سيعانونه.. كم سنفتقدك جميعا يا أبا راكان؛ فوداعا أيها النبيل الذي كان مشهد مودعيك صورة معبرة دامغة على رقيك أيها الغالي.