السيد ولد أباه 

من البديهي أن العالم يعرف راهناً تحولات نوعية لم تتضح معالمها واتجاهاتها النهائية، ومن الضروري أن تستوقف العقل الاستراتيجي العربي لاستكناه مستقبلها وتحديد تأثيرها على الوجود العربي حاضراً ومستقبلًا.

لقد أصبح من الواضح أن الأفق القصير الذي دخلت فيه العلاقات الدولية بعد نهاية الحرب الباردة قد انغلق عملياً، ولم يعد من المجدي الاستمرار في منظور التكيف والتأقلم الذي تبنته القيادات العربية في اتجاهين متمايزين هما: إعادة بناء المنظومة السياسية الداخلية والإقليمية وفق قواعد اللعبة الدولية الجديدة (الإصلاحات الليبرالية والاقتصادية، والانخراط النشط في المعاهدات الدولية الجديدة)، والاحتماء بخط الخصوصية الثقافية والحضارية في مواجهة ديناميكية عولمة نُظر إليها بأنها «متوحشة» أو «أحادية» أو «عدوانية».

في هذه الحقبة تحول الشرق الأوسط بمفهومه الواسع (من المغرب العربي إلى أفغانستان) إلى إحدى أهم ساحات التدخل الدولي من حربي الخليج الأولى والثانية (1991و2003) مروراً بحروب الإرهاب المتصلة انتهاء بأزمات «الربيع العربي» والحروب الأهلية التي تولدت عنه (في سوريا وليبيا واليمن). النتيجة الأساسية من هذه الحقبة هي:انهيار البناء الإقليمي العربي وتفكك عدد من بلدانه المحورية واستفحال التدخل الخارجي في قضايا المنطقة، وصعود حركات التطرّف الديني العنيف والجماعات الإرهابية، التي وصلت حد إعلان دولة خلافة وهمية.

أما ما يجري راهناً على الساحة الدولية، فيمكن تلخيصه في معادلة رباعية: تراجع النظام الليبرالي الدولي الذي شكّل مرجعية منظومة الشراكة العالمية خلال الستين سنة الأخيرة، انتقال مركز العولمة إلى المحور الآسيوي، انبثاق نمط جديد من الحرب الباردة يزيد من مخاطر تهدد السلم الدولي، وانحسار المفهوم الاستراتيجي للشرق الأوسط.

المعادلة الأولى بارزة في صعود النزعات الشعبوية القومية في جل الديمقراطيات الغربية بما فيها الولايات المتحدة وكبريات الدول الأوروبية، في الوقت الذي يتراجع المنعرج الليبرالي في الديمقراطيات الجديدة والانتقالية في العالم ببروز أنماط جديدة من السلطوية المركزية التي تستخدم إجرائياً أدوات التعددية الديمقراطية (روسيا وتركيا..).النتيجة الكبرى لهذا التوجه هو انحسار المرجعية الأيديولوجية للمنظومة الغربية الحديثة، بالتالي إضعاف قدراتها في الضغط والتأثير الخارجي، فضلاً عن تفككها من الداخل كما هو جلي في تراجع مؤسستي الاتحاد الأوروبي والحلف الأطلسي.

أما المعادلة الثانية، فتبدو في الدور الصيني المتزايد في قيادة حركيّة التبادل التجاري العالمي، (وهو ما أكده الرئيس شي جين بينج في منتدى دافوس الأخير المنظم في يناير الماضي ) ضمن استراتيجية طموحة للتحكم في مسارات الاقتصاد العالمي في منافذة البحرية وحلقاته الأساسية عبر «طريق الحرير الجديد» الرابط بين آسيا وأوروبا بامتداداته الأفريقية، مع تأهيل بلدان إقليمية محورية اقتصادياً وعسكرياً لأداء دور الحلقة الاستراتيجية الناجعة في المنظومة الجديدة التي بدأ توفير أدواتها المؤسسية والمالية اللازمة. ولقد خصصت الصين ميزانية لتمويل مشاريع البنية التحتية للخطة الطموحة تصل إلى ستة أضعاف برنامج مارشال الأميركي لإعادة بناء أوروبا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية.

أما المعادلة الثالثة، فتبدو في الصراع المتصاعد ما بين الولايات المتحدة (وبريطانيا أيضاً) مع روسيا البوتينية ليس وفق قواعد الحرب الأيديولوجية الاستراتيجية السابقة، وإنما باعتبار الطموح الروسي القوي إلى احتكار التأثير والتحكم في مناطق نفوذ حيوية في الحزام الحيوي الأورآسيوي التقليدي وفي الشرق الأوسط، مع العودة لمنطق صراع التسلّح لتأمين الدور الجديد والحفاظ عليه. ولقد كشف «بوتين» المرشح لدورة رئاسية رابعة عن جيل جديد من الصواريخ وأسلحة الدمار الجديدة في تهديد علني باستخدامها للدفاع عن أمن ومصالح روسيا وحلفائها، بما بعيد العالم لأجواء الحرب الباردة الأولى.

أما المعادلة العربية، فتبدو جلية في انحسار مفهوم الشرق الأوسط في دلالته العربية الضيقة، وفي دلالته الواسعة في الأدبيات الأميركية الجديدة، نتيجة لتمدد النفوذ الإيراني بمظلته الطائفية وبروز العثمانية الجديدة أفقاً لسياسة شرق أوسطية تركية متحالفة مع جماعات الإسلام السياسي، في الوقت الذي لا يبدو أن الملفات الحيوية في المنطقة ( الملف الفلسطيني والأزمة السورية والأزمة الليبية...) في طور الحل.

هذه المعادلة العربية تفرض على المفكر وصانع القرار في العالم العربي تفكيراً معمقاً وجدية في التعامل معها لتحديد واستباق تأثيرها على المصائر العربية.

*أكاديمي موريتاني