يوسف الديني

 في بدايات لقاءات الأمير محمد بن سلمان ولي العهد السعودي مع الزميل تركي الدخيل كان المجتمع السعودي يترقب إطلالة مفاجئة ومختلفة لمسؤول سعودي رفيع المستوى يتحدث بشفافية عن برنامجه في إعادة موضعة السعودية كدولة قيادية ليس على المستوى الاقتصادي بل حتى في الجانب السياسي لإعادة ترميم انكسارات الربيع العربي وتهديد استقرار مفهوم الدولة الذي بلغ أدنى مستوياته في طول الشرق الأوسط وعرضه، ومن ثم كان حازماً ومحدداً في الحديث غير المألوف عن الموقف من التدخل الإيراني وجماعات الإسلام السياسي والعنف المسلح. كان اللقاء فاتحة للغة جديدة ومستوى من تناول المحظور من قضايا ظلت عالقة لعقود وكان بعيداً عن الأجوبة المواربة، وهو ما أكسب الأمير الشاب شعبية جارفة لدى الجيل السعودي الصاعد الذي يشكل النسبة الأكبر من سكان المملكة، وبذلك القدر من الشعبية وضع الأمير حينها جزءاً كبيراً من المجتمع الدولي ودول الإقليم والخائضين الدائمين في الشأن السعودي من المشككين والمغرضين والمنتفعين وحتى الذين يتعاملون مع «الحدث السعودي» على طريقة التسويق باعتباره شأناً مثيراً يشد الانتباه؛ وضع الجميع في موقف حرج فهو لم يدع لأحد أن يتسلل من بوابة سؤال حرج أو ملف عالق أو قضية شائكة لا يمكن الحديث عنها في الإعلام.

اليوم 60 دقيقة هي أشبه ببرنامج لستين عاماً مقبلة قدم فيها ولي العهد السعودي كل التكهنات حول مستقبل المملكة على طاولة النقاش المفتوح في الهواء الطلق عبر شبكة CBS دون مواربة أو تحفظات مقدماً خريطة طريق سعودية جديدة على المستوى المحلي والإقليمي والدولي خاضها ولي العهد متسلحاً برؤيته الخاصة والشاملة حول أهم ما يشغل الساحة الدولية حيال «السعودية الجديدة» وبوعي مختلف حول القضايا الأهم في الرؤية والتي لم تأتِ إجابات الأمير إلا في إطار تفكير ومشروع عمومي Macro Deal ناظم لها كلها تحت إرادة جديدة لدى القيادة السعودية يمكن تكثيفها في مفهوم «التمكين».
حاورت الصحافية الأميركية نورا دونيل ولي العهد السعودي في أهم سبق إعلامي وحدث منتظر على المستوى الداخلي والخارجي، دون مبالغة كانت هذه الساعة المتلفزة التي ينتظرها السعوديون وأصدقاؤهم وأعداؤهم لمحاولة فهم مقاربة المملكة للمرحلة المقبلة التي شرحها الأمير محمد بن سلمان بلغة سهلة تواصلية يمكن للجميع التقاطها لا سيما الأجيال الشابة التي كانت تحتاج هذا النوع من اللغة التواصلية أحد أهم عوامل تأسيس هويّة وطنية.
من الصعب الإلمام بما قاله ولي العهد السعودي وبتفاصيله وبعضه قد عرضه سابقاً؛ إلا أن من المهم قراءة الزوايا الجديدة في اللقاء وأهمها إعادة التأكيد على تناقض تعامل المجتمع الدولي في التدخلات الإيرانية وربط ذلك بالحرب التي تقودها الولايات المتحدة وحلفاؤها ضد الإرهاب، ركز الأمير على احتضان إيران لـ«القاعدة» وهو أمر يدركه الأميركيون والمتابعون لملف «القاعدة» والإرهاب من الباحثين ومراكز التفكير والأمن، لكنه قدم أيضاً قراءته أن جزءاً من أهداف الحادي عشر من سبتمبر لم يكن ضرب البرجين فحسب بقدر أنه ضرب العلاقة المتينة بين الولايات المتحدة والسعودية؛ الشرق والغرب الذي تختزله الدولتان على مستوى التحالف والأسواق الواعدة والاقتصاد القوي والمؤثر على المجاورين لهما.
هناك مملكتان قدمهما ولي العهد في اللقاء؛ السعودية المتخيلة في الأذهان «المختطفة» من وجهة نظر الأمير منذ عقود بسبب سيطرة آيديولوجيا متشددة ساهمت في عرقلة تنمية البلد، والسعودية في السياق الطبيعي تاريخياً منذ تأسيسها، محدداً فاصلاً تاريخياً يعود إلى ما قبل 1979م، وهو هنا لا يخاطب الجمهور الغربي فحسب، بل حتى الأجيال الجديدة التي لم تشاهد تلك المرحلة وعاشت انقطاعاً تاريخياً مع السياق الطبيعي للبلد والذي تسبب بوضع السعودية في صورة أكد الأمير أن تغييرها ومحاربة التطرف ومن تسبب به إحدى أهم أولوياته جنباً إلى جنب مع التنمية الاقتصادية وتمكين المرأة واحترام الفنون وتقدير الترفيه، وهو ما وصفه الأمير محمد بـ«الحياة الطبيعية» التي لم تكن ضد التقاليد الاجتماعية أو الثوابت الدينية.
المساواة بين المرأة والرجل على مستوى الحقوق لم يأخذ طريقه في حديث الأمير أسلوب الكليشيه الذي عادة ما يقدم خطاباً مزدوجاً بين الجمهور الغربي والداخل، هو واقع اليوم تعيشه الأسر السعودية في الأسواق وأماكن العمل، لكن تأكيدات ولي العهد نقلته إلى مستوى أهم وأرفع، وهو مستوى التشريعات أو ما وصفه بـ«الحقوق الجديدة» بدءاً من التجارة ومعدل الرواتب وحتى الانضمام إلى القطاعات الأمنية، لافتاً إلى أنه تحدٍ كبير يتطلب الإيمان بتلك الحقوق وبمشروع التنمية الموجه لكل أبناء وبنات المملكة على حد سواء.
التطمينات على مستقبل الداخل كانت محوراً مهماً في حديث ولي العهد، لكن الأبرز هو ما يتصل بالسياسة الخارجية للسعودية لإدراك ولي العهد، وهو المطلع والمتابع بشكل يومي للإعلام ومخرجاته، أن التشغيب على السعودية ومواقفها غالباً ما يطال ملفات خارجية بسبب وجود تحالفات إقليمية ومشروعات سياسية كبرى تستهدف الخليج والمنطقة من جهة وتحاول أن تفكك التحالف القوي بين السعودية ودول الاعتدال في العال. ركز الأمير على ضرورة أن يعي العالم أن حالة الميليشياوية على المستوى السياسي لا يمكن لها أن تعيش في المنطقة، فضلاً عن أن تتعايش معها السعودية لأنه لا يمكن لأي بلد يحترم أمنه وحدوده ويحرص على مصلحة جيرانه أن يقبل بسلوك الميليشيا في تسيير إدارة البلاد على طريقة العصابات السياسية، من الإتاوات إلى تجنيد الأطفال وحتى استغلال المساعدات الإنسانية للتسليح، ثم استغلال كل هذه الجرائم الكبرى وتقديمها على شكل مظلومية للمجتمع الدولي، وهو بالضبط ما تفعله ميليشيا الحوثي في اليمن.
الملف الشائك الذي عادة ما يؤرق الدول الغربية هو ملف الأمن والتطرف والحرب على الإرهاب، وكان الأبرز في تطمينات الأمير الذي اعتبر أن مشروع السعودية الأول هو القضاء على التطرف وتأسيس خطاب الاعتدال والوسطية في كل مؤسسات الدولة وعلى رأسها مؤسسة التعليم التي وصفها بـ«المختطفة» وأنه يسعى لحماية جيله الذي كان إحدى أكبر ضحايا ذلك الاختطاف الآيديولوجي. السعودية اليوم تسعى إلى طي صفحة حرجة من الوصاية التي دشنها الفكر المتطرف، واستبدال ترسيخ سيادة القانون والمساواة ومحاولة تقديم حياة الرفاه به، وذلك عبر نمو اقتصادي واستقطاب شراكات كبيرة لأهم الأسواق العالمية.
الروح الشبابية التي عكسها الأمير في حواره هي ما يحرك شباب الخليج والمنطقة اليوم، وهو ما يجب أن يتم الاستثمار فيه في المرحلة المقبلة من قبل النخب والمؤسسات الثقافية والأندية الأدبية وصولاً إلى الأنشطة اللاصفية في التعليم والمدارس.
مرحلة الاختطاف التي وصفها ولي العهد السعودي كانت عميقة إلى الحد الذي غيرت «هويّة» السعودية وسياقها التاريخي المجتمعي المشابه لكل مجتمعات الخليج من حولها والعودة إلى ذلك «المجتمع الاعتيادي» الذي يشابه كل مجتمعات الدنيا في طريقة عيشه وتطلعاته بحاجة إلى مساندة مشروع الأمير ويجب أن تستمع الولايات المتحدة إلى نصيحة دينيس روس المستشار المرموق والمساعد الخاص للرئيس أوباما التي لخصها في عنوان مقالته في «واشنطن بوست»: «على الولايات المتحدة مساندة (ثورة) ولي العهد السعودي».