عزمي عاشور

 مرّت الجغرافيا العربية على مدار العقود الماضية بأطوار عدة في ما يتعلق بالحرب وتداعياتها السلبية. تمثّل الطور الأول في الدخول في حروب نظامية كان أبرزها مع إسرائيل في أعوام 48 و67 و73. ثم الحرب العراقية الإيرانية (1980-1988). ومن داخل تفاعلات هذا الطور برز الطور الثاني باندلاع الحروب الأهلية في كل من لبنان والسودان والصومال، وما ترتب عليها من تفكك وانقسام. ثم ظهر الطور الثالث على خلفية الاحتلال العراقي للكويت الذي تزامن مع انهيار الاتحاد السوفياتي وساعد على دخول المنطقة شكلاً جديداً من حروب التحالفات الدولية لإجبار جيش العراق على الخروج من الكويت.

وعلى رغم تحرير الكويت إلا أن تداعيات سلبيات ما حدث كانت كبيرة، سواء على العراق أو على المنطقة. أما الطور الرابع فتجسّد في أحداث 11 أيلول (سبتمبر) 2001 بتداعياتها التي أدت الى احتلال كل من أفغانستان والعراق، وما ترتب على ذلك من دخول العراق في حالة من التفكك والحروب الأهلية لم تؤد الى تمكين المحتل الأميركي وإنما الجار الإيراني الذي حصد نتائج سياسات الولايات المتحدة في العراق، ولتصبح الجغرافيا العربية في موضع دفاع عن نفسها سواء أمام الكيانات الرسمية من الدول الغربية أو أمام الرأي العام وهم يحاولون تبرئة أنفسهم من «القاعدة» وإرهابها على مدار العقد الأول من الألفية الجديدة التي تم فيها تبني سياسة أميركية على وقع احتلال العراق بنشر الديموقراطية والضغط على دول معينة لإحداث إصلاحات، اعتقاداً من واشنطن أن الإرهاب يأتي نتيجة لغياب الديموقراطية. وتبلور الطور الخامس في التداعيات الخطيرة المرتبطة بـ «الربيع العربي» الذي جاء بنتائج عكسية على أكثر من مستوى في عدد من المجتمعات العربية، مع تزامن الاختراقات الدولية والإقليمية التي أضرّت أكثر ما أفادت.

وإذا استثنينا عدداً من الدول التي استطاعت أن تمتص صدمة هذا الربيع سواء نتيجة الوفرة الاقتصادية أو بالإسراع في إحداث إصلاحات أو نتيجة لتراث وجود الدولة الذي لعب دوراً كبيراً في عدم سير مجتمع كمصر وتونس في نفق الانهيار على طريقة ما حدث في كل من سورية وليبيا واليمن.

وأخيراً على خلفية هذه التفاعلات، برز العامل الأخطر متمثلاً في الطور الجديد من الإرهاب في شكل «داعش» ومن على شاكلته في دول عدة في المنطقة.

المهم أن ما يجمع هذه الأطوار السابقة من التفاعلات على مدار عقود أنها كلها سلسلة مترابطة تسلم إحداها إلى الأخرى بخلق حلقة جديدة من التطورات مختلفة، وليست منفصلة عن سابقتها تساعد أكثر على الهدم في ما هو موجود من دولة وطنية ومجتمع ومؤسسات بالذهاب بها إلى حالة الاقتتال الأهلي والطائفي.

ولا تتم هذه المظلة للتخريب والتفكيك في معزل عما هو موجود في المحيط الإقليمي والدولي، بل تحركها أطراف خارجية من طريق تنظيمات داخلية تربطها الأيديولوجية الدينية التي استطاعت نتيجة لعوامل النحر في الهوية الوطنية على مدار عقود أن تعلي عليها هذه الانتماءات الضيقة. هذا الى جانب التوظيفات السياسية للغرب في قضايا الحريات وحقوق الإنسان التي إذا كان الاستبداد مسؤولاً عن جزء منها، فإن سياسات هذه الدول الخارجية المتدخلة مسؤولة عن معظمها، وها هي جغرافية العراق كدولة ومجتمع شاهد على نتيجة السياسات الأميركية التى جاءت تحت هذه المظلة.

وإذا كانت الجغرافيا العربية منذ مئة سنة وقعت ضحية لإرادة ونفوذ فرنسا وبريطانيا وفقاً لمعاهدة سايكس- بيكو، فهذا السيناريو يتم رسمه في هذه الأيام في طريقة تجمع أسباباً عدة، أبرزها العوامل الداخلية التي ترتبط بظروف هذه المجتمعات نفسها. فكل هذه العقود التي مضت من حكم وطني لم تصنع منها مجتمعات عصرية بقدر ما صنعت منها مجتمعات تعيش في أسر الاستبداد بوجهيه الديني والسياسي لتتحول دولة مثل سورية كبشر وجغرافيا إلى لوحة تراجيدية أشبه بغيرنيكا لبيكاسو عن الحرب الأهلية الإسبانية.

بهذه الحرب اللامعقولة التي تحوّل فيها السوريون إلى وكلاء لقوى إقليمية ودولية متناقضة ومتصارعة على مصالحها على جسد الأرض السورية. وكان منذ البداية الحل للمأساة السورية في متناول أبنائها قبل أن يصبح كل من ليس له ناقة ولا بعير طامعاً في جغرافيتها بدءًا من «الدواعش»، ومروراً بدول عدة، ثم النخبة السورية نفسها التي فضلت صورتها في المؤتمرات ووسائل الإعلام على الوطن كواقع دفع ضريبة وضعه الحالي هؤلاء الذين دُفنوا أحياء تحت الأنقاض.

كل ذلك بسبب هذا التخلف الذي سيطر على عقول الذين يحكمون وعقول الذين ظنوا أنهم يحملون شعارات الخلاص والحريات لمجتمعهم وإذا هم يساهمون في شكل أساسي في كل هذه المصائب التي حلّت ببلدانهم.

فهل نتعلم الدرس بترتيب الأولويات كحكام ومواطنين نعيش على جغرافية مجتمعاتنا ونعيد الاعتبار لمفهوم الوطن وجغرافيته التي لم تعد تقبل كل هذا التعري باسم الدفاع عن الديموقراطية وحقوق الإنسان وهذا الاستبداد الأعمى من جانب الحكام في سبيل الاستمرار في الحكم؟