أكرم البني

يصح القول بأن الضربة العسكرية التي نفذتها واشنطن بمشاركة باريس ولندن وطالت مواقع للنظام السوري، كرست مجموعة من الحقائق المؤلمة والمفجعة التي وسمت المحنة السورية طيلة سنوات، وذلك بدل أن تحدث تحولاً في مسار الصراع القائم، كما توهم البعض، أو تغيراً في توازنات القوى.

أولاً، تشريع المباح من أسلحة السلطة السورية كي تفتك بشعبها، حيث اقتصرت الضربة، كما صرح أصحابها، على تدمير ما سمي الركائز اللوجستية لإنتاج السلاح الكيماوي وليس أي شيء آخر، ما يعني الاستمرار في إطلاق يد النظام وحلفائه لاستخدام كل ما عدا ذلك من وسائل القتل والتدمير، كالقصف بالصواريخ والقنابل الفراغية والبراميل المتفجرة، ولا ضير حينئذٍ إن طال القصف العشوائي والكثيف مروحة واسعة من المدنيين المحاصرين، وإكراههم على الانتقال إلى الشمال السوري، كما حال أكثر من نصف مليون هجّروا مؤخراً من بيوتهم وأراضيهم في الغوطة الشرقية، حيث تنتظرهم، تحت سمع وبصر الغرب ذاته، مقتلة ومجازر جديدة! والأنكى حين يتذاكى بعض المسؤولين الغربيين ويقرنون شدة الرد بطابع السلاح الكيماوي المستخدم في «مجزرة دوما»، وهل هو غاز السارين أم غاز الكلور؟ وهل الأخير مصنع محلياً بوسائل بدائية ومتخلفة، أم مستورد خصيصاً للأغراض العسكرية؟ وذلك كمحاولة لتمييع الحدث والتهرب من واجبهم الإنساني في ردع هذا الفتك المقزز بالمدنيين العزل.

ثانياً، مكنت هذه الضربة المحدودة وغير الموجعة، نظاماً ضعيفاً ومرتهناً، من تفعيل كفاءته الديماغوجية كي يعلن نجاعته في الصمود والتصدي، وانتصاره على خصومه، وبالأحرى على شعبه! وأظهرت قدرة إعلامه المتمرس بالأضاليل في استثمار ما حصل لتنشيط شعارات التعبئة الوطنية ضد «العدوان الثلاثي الغاشم»، وللطعن بشعارات الحرية والكرامة وبسمعة المعارضة «التي تقف مع الأجنبي ضد بلادها»، كما يتهمها النظام! وأساساً لتحويل الأنظار عن المأساة الداخلية وما خلفه عنف السلطة المفرط من ضحايا وخراب، ما يحررها من المسؤولية ويحمّل مسؤولية ما جرى ويجري للآخر المتواطئ، بما في ذلك إعادة شحن المشهد بالمؤامرة «الكونية» التي تتعرض لها البلاد بسبب موقفها المقاوم والممانع، وبأولوية فضح ومواجهة دول استعمارية لفقت قضية الكيماوي كي تسوّغ مشاركتها المباشرة في الصراع حين استشعرت تحول ميزان القوى لمصلحة النظام وحلفائه!

ثالثاً، وضوح استباحة غير مسبوقة للوطن السوري تستخف بدماء أبنائه ومصيرهم ومستقبلهم، ويمكن النظر من هذه القناة إلى الحضور المتنامي عسكرياً لروسيا والميليشيا الإيرانية، وإلى الاجتياح التركي لمدينة عفرين، ثم تمدد التحالف الغربي في شرق البلاد، وتواتر الغارات الإسرائيلية ضد مواقع إيران و«حزب الله» في الأراضي السورية، وأيضاً إلى ما يصح اعتباره، وبعيداً عن النظرة التآمرية، تناغماً أو تواطؤاً دولياً وإقليمياً للتلاعب بالحرب السورية وإطالة أمدها وليس إخمادها، متوسلاً استمرار نهج خاص لإدارة البيت الأبيض تجاه سوريا، يتقصد السلبية وعدم الاكتراث واعتماد مواقف مبهمة ومتناقضة، لترك ساحة الصراع مفتوحة لتصفية الحسابات ولاستنزاف الآخر وكورقة لتحسين الموقع والنفوذ، والعنوان، النيل من الجماعات الجهادية، كـ«داعش» وتنظيم «القاعدة».

والحال، فإن التصعيد اللفظي الغربي والسقف المرتفع لتصريحات الرئيس الأميركي عشية الضربة العسكرية، لم يخدع إلا قلة أخذتها أوهامها ورغباتها بعيداً في الرهان على دور عسكري خارجي يقلب توازنات القوى في سوريا رأساً على عقب، بينما تدرك الغالبية أن لغة التهديد والوعيد الأميركية لم تكن في أصعب محطات المحنة السورية وأشدها إيلاماً، سوى زوبعة في فنجان، وأنها كانت ترتفع عادة لامتصاص الضغط الأخلاقي الناجم عن صور مروعة لضحايا مجزرة أو سلاح كيماوي سبق واعتبر خطاً أحمر.

لكن ما سبق لا يعني أبداً التقليل من الدور الأميركي والاستهتار به، بل يؤكد، على العكس، أهميته وحيويته، ويشجع على استخلاص نتيجة تقول إنه ما لم تتجاوز واشنطن حالة الإحجام والتردد وتتخذ موقفاً فاعلاً وحاسماً من الحدث السوري بما وصل إليه، فلن يحصل أي تحول نوعي في مسار الصراع واتجاهات تطوره.

رابعاً، عمقت الضربة العسكرية الغربية، على تواضعها، حالة تخندق واصطفاف السوريين، بين من زاد التحامه بنظام الفتك والتنكيل، وبين من أعلن بوضوح تأييده الضربة العسكرية وطالب بأن تكون أكثر شدة وتأثيراً، يحدوه صراع مدمر طال، ومعاناة إنسانية شديدة، وانسداد الأفق أمام أي خيار يمكن أن يردع آلة القمع السلطوية ويضع حداً لعنفها المنفلت.

والحال، عندما يستعصي حل الصراع السوري سياسياً وتتوغل أطرافه عميقاً في الدم والخراب، وعندما تصبح لغة السلاح هي الفيصل من دون اعتبار لأرواح الناس وحقوقهم وممتلكاتهم، وعندما يواجه المجتمع فئة حاكمة لا تهمها سوى سلطتها وامتيازاتها وتوظف كل ما يقع تحت يدها للاستمرار حتى آخر الشوط، وعندما يتراجع كل شيء في البلاد نحو الأسوأ، الدولة والنظام والمعارضة، الأمن وعافية المجتمع، الاحتقانات الأهلية والطائفية، الأوضاع الاقتصادية والمعيشية، عندها يمكن تفسير وتفهم حالة التسليم والرضا لدى كتلة مهمة من السوريين بأي دور خارجي، حتى عسكرياً، يمكنه أن يحد من تدهور أوضاعهم.

صحيح أنه ليس من بلد نضجت فيه الدوافع الأخلاقية والقانونية لدور خارجي ناجع يوقف العنف المفرط وينقذ أرواح المدنيين واجتماعهم الوطني، كما سوريا، وصحيح أن الضربة العسكرية الغربية لم تغير من جوهر الأمور شيئاً، لكن الصحيح أيضاً أنها شكلت عند المتضررين من عنف النظام رجاء طال انتظاره كي ترد عنهم بعض القهر والظلم، ليس فقط عند أولئك الموجودين في المدن المحاصرة والمناطق التي خرجت عن سيطرة السلطة أو النازحين واللاجئين في بلدان الجوار، وإنما أيضاً عند كثير من السوريين الذين بدأوا يستشعرون خطورة القادم وأنه أكثر سوءاً وإذلالاً وفتكاً، ونذيره المظاهر التشبيحية المهينة والمنفرة والثأرية التي بدأت تمارسها قوات النظام في الغوطة الشرقية، احتفاءً بما تعتبره انتصاراً!