"الاقتصادية" من الرياض

لم يعد في جعبة نظام الملالي الحاكم في طهران، أو أشد أنصاره حماسا في الداخل والخارج، كثيرا من المبررات التي يمكن اللجوء إليها لتهدئة خواطر الشارع أو مخاوف المؤيدين من تدهور الوضع الاقتصادي بمعدلات متسارعة، الذي بات قاب قوسين أو أدنى من حافة الهاوية.

وعلى الرغم من رفع العقوبات الاقتصادية الدولية التي حملها النظام لسنوات طويلة، ومسؤوليته عن شظف العيش وتدني مستوى معيشة الإيرانيين، هبطت العملة الإيرانية أمام الدولار المتراجع أساسا في الاقتصاد العالمي، لتنهار معها أحلام الطبقة المتوسطة الإيرانية من تحسن أوضاعها بعد سنوات طويلة من الحرمان.

ومع هذا، فإن المطلع على وسائل الإعلام الإيرانية، والمتابع لتحليلات المعلقين والاقتصاديين الموالين للولي الفقيه، يجدهم جميعا يرددون نغمة واحدة لا غير منذ اندلاع الاحتجاجات الشعبية التي عمت المدن الإيرانية أخيرا، وانهيار الريال الإيراني لاحقا.
المبرر الجديد للإعلام الإيراني لتفسير الانهيار الاقتصادي الحاصل، يختصره النظام وأنصاره في الادعاء بأن الإمكانيات المالية المتاحة وموارد إيران محدودة مقارنة بالزيادة الهائلة في عدد السكان، الأمر الذي بات عنصرا ضاغطا على الموارد المتاحة، ما تسبب في تفجير الأزمة الاقتصادية.

ولم تنطل، بطبيعة الحال، تلك الادعاءات أو الدعوات على الغالبية العظمى من الشعب الإيراني، فإيران من أغنى دول المنطقة والعالم فيما يتعلق بموارد الطاقة، سواء النفط أو الغاز، كما أنها دولة زراعية بامتياز، ولا تعاني من مشاكل حادة في توفر المياه، وحدودها البحرية تمنحها إمكانيات ضخمة فيما يتعلق بالثروة السمكية المتاحة، إضافة إلى إنتاجها عديدا من المعادن، كخام الحديد.
من جهته، اعتقد البروفسير إسماعيل حسين زاده، الخبير في الاقتصاد الإيراني، أن مساعي النظام الإيراني لتبرير الانهيار الاقتصادي لن تقبل شعبيا، فالنظام يحاول أن يحرف أنظار المواطنين عن الأسباب الحقيقية قدر الإمكان، في مسعى لكسب مزيد من الوقت عسى أن يجد مخرجا لأزمته الراهنة.

وقال لـ"الاقتصادية"، إن الحكومة وأنصار المرشد يشيرون إلى عوامل هامشية لأسباب الأزمة الراهنة، التي يفضلون أن يصفوها بـ"الوعكة الاقتصادية"، للتقليل من شأن الكارثة الاقتصادية التي تحيق بالمجتمع الإيراني، والتي امتدت لتطول البنية الاجتماعية أيضا.

وأشار إلى أن المشكلة الاقتصادية الإيرانية لا تكمن في نقص الموارد بقدر ما تكمن في إدارتها، سواء من خلال هدرها أو تفشي الفساد، أو وضع أولويات مغلوطة لا تحقق مصالح الشعب بقدر ما تحقق مصالح النخبة الحاكمة، سواء كانت المجموعة المحيطة والمقربة من المرشد أم الحرس الثوري وقادته.

وذكر أن إهدار الموارد في جهود توسعية تمزج بين المشاعر القومية المتطرفة بإعلاء الشعوبية الفارسية وإضفاء غطاء مذهبي ذو طابع طائفي عدواني عليها، برر استنزاف مليارات الدولارات من ثروات الشعب الإيراني لصالح مشروع يواجه برفض إقليمي يجعل الفشل مصيره المحتوم.

وأضاف، "كان من الممكن أن تمثل رفع العقوبات فرصة رائعة لتطوير الرأسمالية الإيرانية لنواة اقتصادية صلبة يمكن أن تواجه بها العالم، لكن المشكلة أن إزالة العقوبات كشفت حجم الخواء الراهن في الاقتصاد الإيراني، ومدى الدمار الذي لحق به نتيجة الفساد المستشري في آليات عمل المؤسسات الحاكمة".

وعلى الرغم من أن القبضة الأمنية المفرطة للنظام الإيراني، قد زادت أخيرا، خوفا من أن تشهد البلاد ربيعا حقيقيا يطيح بنظام الملالي، بعد اتساع نطاق الاحتجاجات الاقتصادية والسياسة في البلاد، إلا أن هذا لم يحول دون كشف عناصر رئيسة في الطبقة الحاكمة، وفي ظل الصراع الداخلي بين مكوناتها المختلفة، عن مدى تفشي الفساد واتساع نطاقه.

وقال فرهاد احتشام زاده، رئيس مجلس إدارة اتحاد الاستيراد والتصدير الإيراني، أخيرا، إن 800 مليار دولار خرجت من إيران خلال العقود الأربعة الماضية من عمر ثورة الملالي.
ويكشف هذا التصريح، وغيره، حجم الفشل الاقتصادي لنظام الملالي، ومدى الانفصال القائم بينه وبين قطاع الأعمال أو حتى الفئات العليا من الطبقة المتوسطة التي تفضل أن تودع أموالها في الخارج لعدم ثقتها في النظام ومستقبله.

بدوره، يرى إل.ج. جروسكوب، الخبير الاقتصادي، أن الفساد أحد المظاهر الأساسية للأزمة الاقتصادية الإيرانية، لكنه لا يعد العامل الوحيد من وجهة نظره.

وأوضح لـ"الاقتصادية"، أنه منذ رفع العقوبات، عززت إيران إنتاجها النفطي، ومع هذا تباطأ النمو الاقتصادي، ولا تزال البطالة والتضخم في خانة العشرات، والعملة تتراجع بشدة، ومستوى المعيشة ينخفض، إذ إن الأمر لا يقف عند الفساد، أو أن ما حدث بعد رفع العقوبات لا يرقى إلى التوقعات.

وأضاف، "لكن ما يمكن رصده أن العجلة الاقتصادية تتحرك بطريقة تترك أجزاء كبيرة من الجمهور الإيراني، لا سيما الطبقة العاملة دون شبكة أمان اجتماعي، فالاقتصاد والميزانية قد تعد، أو تصاغ، وكأنها تصب في صالح الطبقة المتوسطة والطبقات الفقيرة، لكن الواقع العملي يؤكد أن موازين القوى الداخلية في المجتمع باتت في صالح الشرائح العليا من الرأسمالية الإيرانية، التي تزيد ثرواتها على حساب أغلبية الشعب، وتتحصن بالحرس الثوري، سواء عبر التحالف الاقتصادي بين الجانبين، أو مصاهرات عائلية تضمن بقاء الثروة داخل عدد محدود من العائلات، مع مواصلة الاعتماد على نظرية الولي الفقيه، والترويج لأفكار مذهبية طائفية عفا عليها الزمن، ولكن تستخدم لابتزاز مشاعر فقراء الإيرانيين وضمان عدم تمردهم على النظام".

وذكر أن مظاهرات عام 2009 كانت احتجاجا سياسيا على إعادة انتخاب أحمدي نجاد، ما دفع النظام إلى إصلاح الوضع بالتخلي عن الوجه القبيح المتشدد وهو، نجاد، والإتيان بشخص دمث الخلق، لكنه غير كفء إداريا مثل روحاني، لا يمثل تحديا لمثلث القوى الاقتصادية في إيران، وهم المرشد والحرس الثوري والرأسمالية العليا.

وبين أن المظاهرات الأخيرة أكثر خطورة، حيث إنها كشفت حجم الظلم الاقتصادي والاجتماعي، إذ إنها رفعت شعارات الخبز والعمل والحرية ولا للتضخم، وبذلك تطورت سريعا إلى نقد وجودي للنظام ذاته.

ومع هذا، تشير تحليلات جديدة للنظام الاقتصادي الإيراني وأدائه منذ وصول نظام الملالي إلى السلطة عام 1979، إلى أن الخلل الاقتصادي الإيراني الحالي هو، نتاج بنيوي يرتبط بطبيعة الرؤية الاقتصادية منذ هيمنة الخميني على إيران.
وتعتقد تلك المدرسة الجديدة في تحليل الاقتصاد الإيراني أن الرؤية الخمينية وصلت إلى منتهاها الاقتصادي ولم تعد قادرة على الاستمرار.

الدكتور بهمن زادة، أستاذ الاقتصاد الدولي، أحد أقطاب تلك الرؤية التحليلية، يعلق لـ"الاقتصادية" قائلا، "جوهر الرؤية الاقتصادية للملالي، التي ورثوها عن الخميني، هي الانغلاق الاقتصادي والتمدد السياسي الخارجي عبر تصدير الثورة، فالخميني كان يخشى تعزيز التجارة الخارجية الإيرانية، ويدعو الحكومات المتعاقبة إلى التركيز على الآليات الاقتصادية الداخلية، وحصر العلاقات الاقتصادية الخارجية في أضيق الحدود الممكنة، حيث كان هذا جوهر رؤيته الاقتصادية".

وأضاف، "في المقابل كان يرغب في فرض هيمنته الفكرية على الإقليم، وهذا بطبيعة الحال يتطلب عملية تمويل مكثفة عبر شراء ولاءات وتدريب الميليشيات وإمدادها بالسلاح، ومساندتها ماديا، ومنحها خبرات عسكرية وغيرها، ومن ثم يمكن رصد التناقض بين نظام اقتصادي منغلق، وبالتالي، تتقلص موارده تدريجيا، أو تنحصر في عدد محدود للغاية من القطاعات التقليدية طبعا، أبرزها النفط والغاز، وتمدد سياسي خارجي يتطلب عملية تمويل ضخمة. كان من الممكن مواصلة تلك الاستراتيجية لبعض الوقت، لكن لم يعد من الممكن استمرارها، خاصة أن العقوبات الاقتصادية أضعفت استطاعة الاقتصاد الإيراني على زيادة قدراته المالية، بينما اتسع نطاق الاحتياجات الخارجية بعد مقاومة عديد من دول المحيط لرؤية الخميني، ومن ثم الأزمة الاقتصادية الراهنة، تعلن الوصول إلى خط النهاية في الرؤية الخمينية".

ولفت إلى أنه إذا أرادت طهران مواصلة السير قدما بتلك الرؤية، فإن ذلك سيأتي على حساب الاستقطاع من مستوى معيشة شعبها، بما يحمله ذلك من إمكانية اتساع نطاق الاحتجاجات والتمردات الداخلية، بما فيها من تمردات عنيفة ومسلحة.

ويمكن فهم فشل الرؤية الخمينية في مقارنة الحد الأدنى للأجور في إيران عام 2016، الذي بلغ 812 ألف تومان مقابل 2.382 مليون تومان لتكاليف المعيشة. وفي العام الماضي، ارتفع الحد الأدنى للأجور إلى 930 ألف تومان، بينما بلغت تكاليف المعيشة 2.648 مليون تومان، وهذا يعني أن تكلفة الأسرة العاملة أكبر بثلاثة أضعاف الحد الأدنى للأجور.