محمد السعيدي

الضعفاء الغوغاء الفرقاء إذا اشتجروا فلا يحسم أمرهم إلا الأقوياء؛ هكذا فعلوا في أفغانستان والبوسنة والعراق، وهكذا سيفعلون في سورية

الغم الذي أصابني ليلة ضرب روسيا وإيران وقوات الأسد الغوطة الشرقية أصابني مثلُه أو ضِعْفُه ليلة ضربِ دمشق من قِبل الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا؛ وذلك أن ضرب الغوطة قام به مجرمون، من يعرف حقيقتهم لن ينتظر منهم أقلَّ 
من ذلك؛ فبوتين يذكر له التاريخ تدميره الكامل لجروزني عاصمة الشيشان، وروحاني يذكر له التاريخ القريب أيضا إشرافه على قتل خمسة وأربعين ألفًا في سجون طهران بأمر الخميني في حدود سنة 1985، والأسد مجرم ابن مجرم، تنقضي المَحَابِرُ في سرد جرائمه وجرائم أبيه.
أما ضرب دمشق فحقا هو تأديب لبشار، وإتلافٌ لمصانع الكيميائي المهلك للحرث والنسل، ووقوفٌ في وجه من معه، وَحَدٌّ لانتهاكات قوى دولية تضارع أو تفوق تلك الدولة التي يستقوي بها نظامه ويمجدها إعلامه؛ لكن المصيبة أن هذا التأديب ليس بيد شعبه الثائر منذ سبع سنين، ولا بيد الدول الشقيقة لهذا الشعب؛ فكانت المصيبة مركبة من مصائب عدة:
مصيبة طغيان هذا الرجل على شعبه وتجبره عليهم بشكل لا يعرف التاريخ مثله؛ بل واستعانته عليهم بأعدائهم مذهبًا ودينًا وعنصرًا؛ وهم الإيرانيون والروس.
ومصيبة تفرق الثائرين، بل وعمالة الغالبية منهم لقوى عدوة لهم عمالة بعضها بعلم وترصد، وأكثرها بغباء وسفاهة أحلام، جعلت منهم عسكرًا ضد بعضهم، يقتلون أنفسهم بأيديهم، ويخرجون فريقا منهم من ديارهم، حتى كأنهم هم من قال الله فيهم: ﴿ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون﴾ [البقرة: 85].
ومصيبة الواقع العالمي والإسلامي والعربي بكل تفاصيله السيئة، والذي ترتب عليه عجز الدول العربية والعالمية عن نصرة الشعب السوري المظلوم، مما اضطر أكثره إلى الشتات وآخرون إلى انتظار الموت قصفاً من السماء أو رمياً من الأرض.
ومصيبة الحاجة الدائمة للقوى العظمى لإنهاء مآسينا.
ومصيبة العجز المستمر والتام من المنتمين للحركات الإسلامية عن الاستفادة من دروس التاريخ القديم والحديث، وتكرارهم لذات الأخطاء في كل تجربة، وتجرعهم المستمر لمرارة الفشل، وتجرع شعوبهم ويلات أخطائهم دون أن يكون لها أثر في ردعهم عن معاودة تجرعه، ليعودوا في كل عام وفي كل بلد يبدؤون من الصفر، وكأنهم لا تاريخ ولا تجارب لهم.
هكذا بدا لي المشهد في اليومين الخاليين، فعسى الله أن ينزل علينا من بعد الغم أمنة منه.
ومما يزيد الجراح عُمقًا أن هذه الدروس التي تُقدِّمُها لنا التجارب ثم لا نستفيد منها تدفع شعوبُنا المسلمة ثمنها دماءً وديارًا وتشريدًا وتفرقًا واحترابًا، ثُمَّ يضيع كل ذلك هباء منثورًا، وكأنما هو بضعة قراطيس تطايرت مع عصف الرياح.
فمن الدروس التي لم نستفد منها: أن الأصل في الانتصار والهيمنة والغلبة كونُها للأقوى عُدَّةً والأكثر عددًا والأمكن قيادة وترتيبًا؛ وهي السُّنَّة الكونية التي لن تجد لها تبديلًا ولن تجد لها تحويلًا؛ سواء أكان هذا القوي مؤمنا أم كافرا؛ وكذلك الضعيف الذي لا يمتلك العدة ولا العدد ولا القيادة، أو امتلك بعضها وحرم البقية مع تفوق خصمه، فالسنة الكونية والأصل فيها أن يُهْزَم أمام من هو أقوى منه؛ ولم يكن انتصار الضعفاء على الأقوياء طيلة التاريخ إلا استثناءات لكل حالة منها أسبابها الخاصة التي خرجت بها عن الأصل وهو أن القوي هو الذي ينتصر.
وأكثر الجماعات الثورية في عصرنا الحاضر والتي تنتحل لنفسها وصف الجهادية والإسلامية، أو ينتحله لها أعداء الدين ليشوهوا بهم صحيفة الجهاد والإسلام، هذه الجماعات تأخذ من كتاب الله آيات تنزعها من سياقها وترفع بها عقائرها، وتقول للناس عكس سنة الله في خلقه، وهو أن الضعيف يغلب القوي والمتشرذم يغلب المتحد؛ كل ذلك دون العمل بأسباب الاستثناء من سُنَنِ الله في خلقه، فيغتر بمغالطاتهم الشباب المغرور، ويطيرون وراءها متَّهِمين بالضلال والقعود عن واجب الجهاد وخدمة الدين مَن خالفهم؛ ليُدخلُوا الأمة الكَرَّة تلو الكَرَّة في كمائن الهزيمة والحصار والقتل والتشريد.
يأخذون قوله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم﴾ [محمد: 7]، فَينزلونه على أنفسهم، ويجزمون بأن الله ناصرهم؛ مع أنهم لم يحققوا الشرط الذي في أول الآية؛ فلم ينصروا الله بل نصروا أنفسهم، وقاتلوا دون رؤاهم الهزيلة وتصوراتهم المغلوطة عن الدين والتوحيد وحقيقة الإسلام والكفر؛ لذلك لم يأبهوا أن يتركوا عدوهم ويوجهوا أسلحتهم في صدور إخوانهم ممن خالفوهم؛ فأي نصر لله هذا حتى ينصرهم الله من أجله؟! وأي كرامة لهم عنده وهم يستبيحون حرمات عباده باسمه؛ حتى يغير سنته وينصرهم وهم الضعفاء المفترقون البائسون على أهل الكراع والذراع والعدة والعتاد؟!
قال الله وحقًّا قال: {إن ينصركم الله فلا غالب لكم}، لكنه قال أيضا: {وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده}، فمن يقرأ صدر الآية ثم لا يقرأ آخرها فلعله - والعياذ من الله- من الذين يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض؛ وهؤلاء كما أنهم كانوا في بني إسرائيل، فهم أيضا في أمة محمد كثير، ومنهم هؤلاء الذين يركبون بالأمة الصعب تنزيلًا على أنفسهم لقوله تعالى: ﴿كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين﴾ [البقرة: 249]، وهم أشدُّ الناس عماية عن قوله عز وجل: ﴿وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين﴾ [الأنفال: 46]، وأعصى الناس لقول ربهم: ﴿فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا﴾ [النساء: 94]، فهم أعجل الناس إلى التنازع رغم ما يرونه من وحدة العدو وتربصه بهم وبأمتهم، وأسرع الخلق إلى تكفير بعضهم فضلًا عمن ليس في صفهم وكأن المِلَّة بيت أبيهم.
ثم بعد كل ذلك يلقون أسباب الهزيمة على غيرهم، مع أن الله قد أمر المؤمنين أن يراجعوا أنفسهم إذا أصابتهم مصيبة: ﴿أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير﴾ [آل عمران: 165]، ولو رجعوا إلى أنفسهم لعلموا أنهم لم يبنوا أنفسهم وأمتهم بناء إيمانيًّا يحقّق لهم وعد الله الذي لا يخلف وعده، ﴿وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم...﴾ [النور: 55]، ولم يعتصموا بحبل الله جميعًا، ﴿واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا...﴾ [آل عمران: 103]، بل نشؤوا مفترقين، وكانوا مع كل صباح يزدادون فرقة وتشرذما. ثم بعد كل ذلك يصيح حمقاهم: وكيف تستعينون بأميركا التي هي عدو لكم على أعدائكم؟! هكذا يحتجون!
يا هؤلاء، إن الضعفاء الغوغاء الفرقاء إذا اشتجروا فلا يحسم أمرهم إلا الأقوياء؛ هكذا فعلوا في أفغانستان والبوسنة والعراق، وهكذا سيفعلون في سورية؛ وإذا لم يستفد الضعفاء من كل تلك الدروس القاسية والتجارب المريرة، وينشغلوا ببناء أنفسهم وإصلاح ذواتهم وتوحيد كلمتهم، إن لم يفعلوا ذلك فسيظل الضعفاء لعبة للأقوياء اليوم وغدًا وبعد غد، وإنا لله وإنا إليه راجعون.