عبدالرحمن الطريري

عندما وصل الرئيس ترمب إلى المملكة، كأول محطة خارجية في أمر غير معتاد من زعيم أهم دولة في العالم، دفع هذا الأمر الكارهين من العرب قبل غيرهم للأسف، لاختصار الزيارة في مبلغ الصفقات، رغم أن واحدهم لا يستطيع ذكر 3 من الاتفاقيات.

ومن يريد التشويه للتشويه، لن يسعى لفهم التفاصيل، ومعرفة تنوع الصفقات بين مجالات علمية وبحثية، وسعياً لتوطين التقنية في عدة ملفات، وحتى إذا مرت السنوات وبدأت المشاريع ترى النور فلن يغير من نظرتهم شيئاً، لكن ستكون الحقائق أصدق.

أذكر حينها أن بعض من عدوا أنفسهم وكلاء على المال السعودي، قالوا إن هذه الصفقات لو دفع مبلغها للعالم العربي، لساهم في تنميته ورخائه، وفي قول مضحك آخر، قيل «لو دفع هذا المبلغ لفلسطين لتم تحريرها».

والبديهية الأولى أن الشعب السعودي أولاً يريد تنمية وطنه وحفظ أمنه، ثم يأتي واجبه الذي لم يتأخر عنه يوماً في مساعدة أشقائه، ولعله من الجيد التذكير بحملة «ادفع ريالاً تنقذ عربياً»، والتي كان يقدم من خلالها الطلبة المال أملاً في تحقيق حل عادل لقضية فلسطين.

وهذا بلا شك سار بالتوازي مع جهود سياسية من المملكة عبر التاريخ، فالملك فيصل أقنع الفرنسيين بالحياد وإيقاف بيع السلاح للإسرائيليين، والملك فهد والملك عبدالله قدما مقترحين للسلام إلى الجامعة العربية، حين كانا وليين للعهد في 1981 وفي 2002، لكن السلام يفسد تجارة الكثير من الحناجر والمنابر.

ومن سخرية القدر ما سمعته من صديق صحفي من أوروبا الشرقية، زار عدة مدن فلسطينية العام الماضي، يقول إن الفلسطينيين لا يملكون مشاعر طيبة تجاه السعوديين، وعندما استفسر عن السبب، قالوا له لأن السعودية تدعم قياداتنا لتبقى في مناصبها.

وهذا يعيدنا مباشرة إلى النقطة البديهية وهي تقييم الآخرين لقوة السعودية، فحيناً تكون من القوة لفعل كل المستحيلات في الكون، حين يراد لها أن تجلس في مقعد المسؤول عن أمر سيئ، وأحياناً تكون من الوهن بحيث لا تستطيع قتل بعوضة، حين يكون الهدف التقليل من قوتها.

الأمر الآخر وهو التفريق بين الصوت العالي والصوت الحقيقي للشعوب العربية، حيث المحب والمقدر لدور المملكة لا يحتاج للحديث كثيراً لأنه بلا أجندة سياسية، كذلك من الطبيعي أن تكون أصوات الموالين لحركة حماس الإخوانية والقريبة من إيران، من الناقدين للمملكة، ذلك لأن المملكة هي السد المنيع التي تصدت للمشاريع الإيرانية في البحرين واليمن، ولمشروع الإخوان المسلمين في مصر، وهو ما انعكس بالضرورة على تونس وفلسطين.

والمملكة إذ تعلو الأصوات أو تخفت حول مواقفها، تدرك أن هذه الأصوات إنما تحاول في حقيقة الأمر أن تدفعها للإحجام عن دعم قضية فلسطين، وهذا أمر متعذر لأنها قضية متجذرة في وجدان كل فرد من الشعب السعودي.

ولهذا أعلن الملك سلمان حفظه الله تبرع المملكة بقيمة 200 مليون دولار، 150 مليون دولار منها لبرنامج دعم الأوقاف الإسلامية في القدس، و50 مليون دولار لوكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى (الأونوروا).

جاء هذا الدعم من المملكة في القمة العربية التي استضافتها الظهران، وقرر خادم الحرمين الشريفين تسميتها «قمة القدس»، والتسمية بالإضافة إلى الدعم المقدم، لهي رسالة سياسية مهمة للإدارة الأمريكية، أن السعودية تحشد موقف العالم العربي ضد القرار الذي يهدف لنقل السفارة الأمريكية إلى القدس.

كما أن التوقيت له رمزية أخرى، إذ يأتي الموقف السعودي بعد نهاية جولة سمو ولي العهد إلى الولايات المتحدة، والتي شهدت أيضا عدة صفقات مع شركات أمريكية ومؤسسات علمية، مما يعني أن المملكة تنمي مصالحها دون أن يؤثر ذلك في ثوابتها ولا في مواقفها الراسخة من القضايا العربية.