عبدالامير المجر 


روى لي صديق بعضا من ذكرياته، حين كان اسيرا في ايران، قال؛ كنا مجموعة من الاسرى في معسكر او مكان واحد، نزجّي اوقات فراغنا الطويل في بعض الالعاب المسلّية، والاحاديت المتبادلة واستذكار ايامنا الماضية، يجللنا الحب ويحدونا الامل بالعودة الى اهلنا. وبعد مدة، جيء الينا بأسير جديد، وكان هذا متعصبا ومتطرفا بافكاره، لكن شخصيته لاتخلو من كاريزما، تؤثر بالاخرين .. لم يدم الوقت طويلا حتى تمكن من استقطاب بعض الاسرى من المذهب الذي هو عليه، وراح يصلي بهم جماعة، ولم يكن هذا الامر بشيء مستنكر، لكن المقلق لنا، والكلام للصديق الاسير، انه راح يغذي هؤلاء بالتعصب والتطرف الذي غيّر 
مزاجهم.

فحرّض سلوكه هذا احد الاسرى من المذهب الاخر ممن لديهم ثقافة دينية، ان يحذو حذوه، واقامة صلاة الجماعة بالاخرين، وهكذا انقسم المعسكر الذي كان موحدا، ليس مكانيا بل نفسيا، لان هذين (الامامين) بدلا من ان يكونا عامل توحيد والفة بين الاسرى، ويتناوبان امامتهم في صلاتهم، ومساعدتهم نفسيا في التغلب على آلام الغربة وفراق الاهل، صارا عامل ارهاق وشد نفسي وفرقة، بالاضافة الى قائمة التحريم التي اتسعت لتشمل جميع وسائل المتعة البريئة التي كانوا يسلّون انفسهم بها ..
في العام 1929 وقعت احداث دامية في مدينة القدس، مثلت بداية الفاجعة التي توالدت منها عشرات ومئات الفواجع ومازالت مستمرة، ولااحد يدري الى اين تتجه الامور بعد ان بلغت الازمة مبلغا خطيرا، اثر نقل السفارة الاميركية الى المدينة المقدسة لدى اصحاب الديانات السماوية الثلاثة، والاعتراف الضمني بيهوديتها، كما يرغب اليمين الاسرائيلي ... لقد ولدت الفاجعة من رحم الصلاة المسيسة، حين نظمت حركة بيتار الصهيونية المتطرفة، تظاهرة في القدس تنادي .. الحائط لنا! 
ويقصدون حائط المبكى او حائط البراق كما يسميه المسلمون، وكان ذلك ايام الانتداب البريطاني، الذي لانستبعد ان تكون هذه النشاطات خرجت من تحت عباءته، وبشكل متسلسل بعد اعلان وعد بلفور في العام 1917، الذي يجب ان ينفذ، وبطريقة تدريجية، ولابأس ان يكون من خلال تظاهرة ستشعل فتيل ازمة امتدت لتحرق الكثير من المدن الفلسطينية، وقتذاك، ويقتل خلالها الكثيرون من المسلمين واليهود في اعمال عنف، كانت شرارتها رغبة بعض المتطرفين ان يكون (حائط المبكى) لليهود وحدهم على حساب المسلمين، الذين يرونه احد اعمدة قصة الاسراء والمعراج الشهيرة في القرآن، متناسين ان هذا المكان، كانت تؤمه الناس من الديانتين للصلاة، قبل ان تسيس ويراد منها اهداف اخرى .. لقد ذهب ضحية (ثورة البراق) كما تسميها الادبيات السياسية العربية او (احداث تارباط) كما تسميها الادبيات السياسية الاسرائيلية، نحو 166 مسلما و133 يهوديا عدا الجرحى، لكن الاهم من كل هذا، ان تلك الاحداث كانت بداية لمرحلة جديدة من العلاقة بين ابناء البلد الواحد، لم تنته بتقسيمه التعسفي في العام 1947 ولا بالحروب المدمرة التي مازالت مستمرة، ولابالخراب الشامل الذي عم المنطقة كلها بعد ان استثمرت القوى الطامعة، هذه العاطفة الجياشة واشتغلت عليها بطرق ماكرة، استنزفت ثروات بلداننا، البشرية والمادية، وسرقت وقتنا واعمارنا، منذ سبعين عاما 
ومازالت ..
لقد وظف الاعلام الصهيوني، طروحاتنا العاطفية، المتمثلة بالصلاة في القدس بعد تحريرها! وراحوا يروجون للامر وكأنه حرب دينية، وبذلك استقطبوا الكثيرين في اوروبا واميركا، لان الناس هناك وببساطة، اقرب الى اليهودية من الاسلام، او ان ثقافتهم الدينية القارة، تعد الاسلام خصما مشتركا للديانتين السابقتين. فلماذا نستعدي الاخرين، في الوقت الذي يأمرنا ديننا باحترام اهل الكتاب، وهو ما حصل فعلا عند فتح القدس نفسها في عهد الخليفة عمر بن الخطاب (رض) حيث احترمت دور العبادة المسيحية واليهودية، وتعايش الناس منذ ذلك الوقت، ولو بالحدود المعقولة بعيدا عن الاقصاء والنفي الثقافي الذي يتحدث عنه اليوم، المتطرفون من اليهود
والمسلمين معا.
نرى ان المؤتمرات التي تعقد تحت عناوين دينية اسلامية، كإنقاذ بيت المقدس او اخراج اليهود من المقدسات الاسلامية وغيرها من الطروحات الاقصائية، تستثمر لغير صالح الفلسطينيين الذين يريدون ان يعيشوا مع اليهود والمسيحيين وغيرهم في بلد مدني يستوعب الجميع، أي كما كان قبل احداث البراق او تارباط، 
لانه لايوجد اقدس من الانسان الذي هو بنيان الله، وملعون من هدمه، او هكذا تعلمنا منذ الصغر، اما ان يقسم البشر على شكل فئات او درجات وفقا لاديانهم ومذاهبهم، ثم يقتلون ويعذبون من اجل ان تستقيم صلاة هذا الدين او هذا المذهب، 
فان الامر يحتاج الى وقفة انسانية، يقفها العقلاء ممن يدركون ان رسالات السماء جاءت لخير البشر وليس لاذكاء نيران الفرقة والتناحر بينهم ..
كما اراد لهم (ائمة) الاسرى الذين اشرنا اليهم في بداية السطور، وائمة وحاخامات آخرون، ملأوا الارض خرابا ودما.