توفيق السيف 

من حيث المبدأ، تتألف الفكرة الدينية من قيم ومعايير مجردة، مرتفعة على الواقع. لكن الدين لا يريد البقاء فكرة مجردة، بل يدعو لتطبيق قيمه في واقع الحياة.


دين الله نور يشق ظلمات الحياة، ولا قيمة للنور ما لم يكن ثمة مستنير، إنسان يبحث عن طريق وسط الظلام. ولهذا السبب اهتمت الأديان بإنشاء منظومة تفسيرات وأحكام، ترتبط بالحياة اليومية وما تشهده من وقائع. ونظراً لاتصالها المباشر بوقائع الحياة، فهي تشبه ما نسميه اليوم «لوائح تنفيذية» تحدد ما ينبغي للمكلف أن يفعل أو يترك.
ربط القيم مع الوقائع يؤدي - بالضرورة - إلى تغيير صورتها التي عرفتها يوم كانت فكرة مجردة. ويبدأ هذا الربط بالأحكام المتصلة مباشرة بالسلوكيات الفردية ونواظم العلاقة بين الأفراد. ثم يتمدد تدريجياً، ليشمل المثاليات والمجردات، فيمسي كل شيء في الدين متجسداً في صورة مادية أو شبه مادية، على شكل تطبيق لحكم أو تفسير لقيمة أو توليد لمعنى محدد، عملياً أو نظرياً. وهكذا لا يعود للقيم والمعايير النظرية أي وجود مستقل أو متعالٍ على الوقائع.

لتوضيح الفكرة السابقة، نشير إلى الجدل الدائم حول الفرق بين الدين والمعرفة الدينية، أو بين الدين والتدين. ولا بد أن كلاً منا قد قرأ أو سمع يوماً بالدعوى الرائجة، التي ملخصها أن الإسلام لا يتحمل وزر تخلف المسلمين أو تقصيرهم. فهذا القول يشير - ضمنياً - إلى تقبل أصحابه، وأظنهم الشريحة الأوسع، لفكرة وجود نسختين من الدين مختلفتين: نسخة أصلية سابقة للتجربة الحياتية، ونسخة تشكلت بعد اختلاط القيم الدينية بمؤثرات الحياة الاجتماعية وأفهام الناس، وهي لا تطابق - بالضرورة - مثاليات الدين وصورته المرتفعة.
نعلم من تجربة البشر، أن فهمهم للأشياء يتغير باستمرار، نتيجة لتطور معارفهم الشخصية أو امتداداً لتغير الوسط الاجتماعي. ويترتب على هذا تغير رؤيتهم لقيمة تلك الأحكام، والمعاني التي تولدها، وموقعها في خريطة حياتهم.

زبدة القول إن تطبيق الفكرة الدينية، حكماً كانت أو قيمة أو تفسيراً، يجري ضمن سيرورة تفاعلية، بين الفكرة والفاعل وعناصر الواقع الذي يجري فيه التطبيق. هذا التفاعل متعدد الاتجاهات بالضرورة. تطبيق الحكم يحدث تغييراً في الواقع، كما أن شروط الواقع وإلزاماته، تحدد نطاق عمل الحكم ومفهومه، وموقعه في النسيج الثقافي للجماعة. ومثل هذا يقال أيضاً عن فهم الفاعل/ المكلف للفكرة، فهو يحدد معناها النهائي وطبيعة المعنى الذي تولده، وبالتالي رتبتها المقارنة مع القيم الموازية.
تبعاً لهذا التحليل، نستطيع القول إن الأحكام والقيم الدينية التي نعرفها اليوم، ليست هي ذاتها التي كانت قائمة في الأزمان السابقة. فقد مرّت بتحولات في الفهم والتطبيق، شبيهة للتحولات التي عاشتها الأجيال التي فهمتها وطبقتها ثم أورثتها لمن جاء بعدها.
معظم العاملين في الدراسات الدينية يعرفون هذا. ولهذا قرر بعضهم إغفال الفاصل التاريخي، والذهاب مباشرة إلى النص الحامل للقيمة أو الحكم.
يعتقد كثير من الناس أن الحل موجود في منبع النهر. «العودة للكتاب والسنة» ستوفر فرصة أفضل لفهم الدين، كما كان في الأصل عند المنبع.
لكن هذه المحاولة التي تبدو جذابة، تواجه سؤالاً جدياً خلاصته: هل يستطيع الباحث أن يغادر زمنه الثقافي فيتحرر من أدوات الفهم التي تشكل عقله، كي يقفز إلى مرحلة سابقة لها، فينظر فيها بعقل متجرد؟ هل هذا ممكن في الواقع أم هو مجرد حلم؟