سمير عطا الله 

كان الشيخ عبد الله العلايلي يقرأ ويكتب، ينهل، ويبحث، يغرف ويعرف، ويجمع ويروي، وهو مقتعدٌ أرض غرفته، ومن حوله الكتب والأوراق والمحابر، كمن يعيش ويعمل في القرن العاشر. لكن ذلك العلاّمة النادر كان يتقدّم رؤى القرن العشرين الذي عاش فيه، ينمو ويكبر مع نمو بيروت، التي عاد إليها طالباً متميزاً من الأزهر وخطيباً من أسياد الفكر والبلاغة، ولغوياً مرجعياً يخجل كبار النحويين من المثول في حضرته.


كان الأقدمون يصفون المتضلّعين «بأن اللغة طوع بنانهم». وكان الشيخ عبد الله إذا وضع العمامة تتراقص من حوله أطيار اللغة. وتبسط من أمامه العقد والقواعد. وكان يقول: «اللغة أحد وجهي الفكر، فإذا لم تكن لنا لغة تامة صحيحة، فلن يكون لنا فكر تام صحيح». ودعا الشيخ المعمم والأزهري الراسخ، إلى تحرير الأدب والشعر والبيان من الأوتاد. ونظم هو نفسه الشعر العاطفي. وكتب في جميع الأحداث والتحولات، منطلقاً على الدوام من الإيمان والإنسان، رافضاً المناخ الطائفي القائم من حوله. وكان الشائع يومها أن يوسم كل مجددٍ بالشيوعية فسمي العلايلي «الشيخ الأحمر». وعزز شبهات الجاهلين قول المستشرق السوفياتي سمير نونوف: «يأتي اسم الشيخ عبد الله العلايلي في طليعة العلماء العرب المعاصرين الذين يستند إلى أبحاثهم ومؤلفاتهم الباحثون السوفيات في حقل الاستعراب».
كتب العلايلي في النقد والشعر والفقه والسياسة. ورأى فيه القوميون العرب سنداً إسلامياً لاتجاهاتهم الوطنية. ورأى في العروبة ومكوناتها حاضناً تلقائياً لجميع الأنسام في بلاد العرب.
وكان يرى في العروبة ملاذاً للبنان يشفي اللبنانيين من العقد المعطلة للأوطان والمفتتة للسيادة والاستقلال.
وكما نظر للقومية العربية كان من علماء المسلمين في زمنه الذين تقبلوا الفكرة اللبنانية وأضاء على مفاهيمه. وبسبب ذلك تحلّق من حوله دعاة «اللبنانية»، وفي طليعتهم سعيد عقل، الذي قال في رثائه (1914 – 1996) ما لم يقله في أحد، راثياً فيه ولياً من الأولياء.
تراجعت اللغة العربية والمعاجم في لبنان بعد العلاّمة الشيخ، وفي زمنه كان أعلامها كثيرين وأربابها جبابرة مثله تقريباً. ولم يعد ثمة وجود كبير لتلك الأسماء والأعلام. وبهت الاهتمام باللغة والتكرس لها. وكان وجود رجل مثل العلايلي الكوكب المحرك لدائرة العربية، لكنه مضى من دون أن ينجز «المجمع العربي الكبير» ولم ينجزه من بعده أحد.
إلى اللقاء.