عبدالله بشارة

 ليست مفاجأة الاختلاف في المواقف بين الكويت وبين أعضاء آخرين في مجلس الأمن، بما فيهم الولايات المتحدة وبريطانيا وغيرهما، فالدول تصوت وفق مصالحها، وبما ينسجم مع منظورها وبما يترجم اعتباراتها السياسية والاستراتيجية، بالإضافة إلى ما تتطلبه الاعتبارات الداخلية في هذا التصويت. ومن تجربتي الخاصة في مجلس الأمن يمكن لي أن أضع إدارة الوفد الكويتي الحالي في مصاف الرقي في الكلمات، وفي اتباع قواعد الاختلاف،

ولم يخرج الوفد الكويتي عن الأدب اللطيف في تدخلاته شرحاً لمحتوى مشروعه أو في تقديمه إيضاحات تثيرها الدول الأخرى، ولاحظت الهدوء التلقائي الذي يرافق المندوب الدائم السفير منصور العتيبي، فلا ينفعل ولا ينطلق في فضائيات الخطابة كما كنا نعمل في أواخر السبعينات من القرن الماضي، ونعترف بأن اختيار الكويت جاء من «الكوتة الآسيوية»، لا علاقة لها بالمجموعة العربية التي تتواجد في مجلس الأمن وفق «تفاهم الجنتلمان» في تبادل، مرة عربية من آسيا وأخرى من أفريقيا، وتم انتخاب الكويت بما يشبه الإجماع لسجلها الناصع في الأمم المتحدة، ولنضج سلوكها ومكانة قيادتها، ولم يتم الانتخاب لأنها تمثل القضايا العربية أو أنها تحمل هم الملف الفلسطيني.
وعادة ما يتم التشاور داخل المجموعة العربية قبل طرح أي مشروع عربي على المجلس، وهذا ما حدث، حيث يتولى العضو العربي التنسيق داخل المجلس ويقوم بمأمورية التفاوض مع الآخرين حول صيغة المشروع، كما يتولى العضو العربي في مجلس الأمن تقديم الرأي والنصح للمجموعة العربية أو للطرف المباشر في الموضوع، وفي الحالة التي نتحدث عنها كانت منظمة التحرير مصدر المبادرة، ولا أشك في أن وفد الكويت شرح التفاصيل للجانب الفلسطيني الذي لم يكن يعطي للفيتو الأميركي أي اعتبارات، ففي تلك المشاعر المحشوة بالانفعالات والضغط وأثقال العنف الاسرائيلي، ومنظر الشهداء وهم يتساقطون واغلاق أبواب الأمل، فحول كل هذه الصورة البائسة تتجمع عناصر الغضب ولا تبالي بما تقوله مندوبة الولايات المتحدة ولا بتصويتها المؤذي.
وأنا من المقتنعين بأن فيتو واحدا يكفي، فلا داعي لتكرار قرار يدعو لحماية أبناء غزة – خاصة أن مصيره معروف – فأجواء الفيتو تفرز أجواء ليست صحية داخل المجلس، جربتها شخصياً، وتؤدي إلى انفعالات تضعف أوتار الانسجام السياسي والدبلوماسي بين الأعضاء وكذلك بين الحكومات، وكان من المأمول الاكتفاء بالمناقشة الواسعة التي شارك فيها الأعضاء والآخرون، وأظهرت الدعم الدولي القوي لحقوق الشعب الفلسطني، وفي هذا الموقف مكسب معنوي وسياسي لا تلوثه سلبية الفيتو.
لم يكن هناك ما يدعو إلى الدفع نحو الفيتو الثاني، مع الاكتفاء بالمناقشة وتأجيل التصويت، كان ذلك أسلم مخرجاً وأكثر سلامة لخطوط الاتصال بين المنظمة والولايات المتحدة، لأن الفيتو من جانب والتصلب من الجانب الآخر يعكران المزاج السياسي، ويبعدان فرص الاتصال ويقللان من زخم الثقة.
مررت شخصياً بمثل هذا الموقف، وكانت الحصيلة التأجيل من دون خسائر في ممرات الاتصال ومن دون تعطيل لمسارات الحوار.
استشهد أكثر من سبعين شخصاً من شباب فلسطين بدفع من جماعة حماس التي تريد ديمومة التوتر بإصرار قوي على مخاصمة التوجه الدولي بتحد كبير للمبادرة العربية، وبتجاهل مؤلم للخسائر البشرية التي يدفع ثمنها شباب فلسطين المحشو بمشاعر القهر والظلم.
وبصراحة لم تكن ترتيبات «حماس» ومواقفها مؤخراً ترجمة لخطة فلسطينية متكاملة لوقفة جماعية ضد الاحتلال، وإنما كانت فصلا دامياً يزيد من كميات الأحزان والهموم الفلسطينية. وكان الأجدر أن تتحرك «حماس» نحو الوحدة الفلسطينية اللازمة والملحة، حيث جاء الانقسام بالفتور الدولي، وتأكيد انعدام الجدية في موقف فلسطيني موحد يهيئ للتعبئة الجماعية.
ولعل السيد أبو مازن الغارق في الأحزان والغاضب من المهانة الأميركية ومن مناورات «حماس»، يفكر في وضع استراتيجية المقاومة السلمية الشاملة وفق خطة واقعية تعيد ديناميكة المسار الفلسطيني نحو الأمل الذي طال انتظاره، وسيتحقق في النهاية.
ويبقى الأمر المهم لنا والمتعلق بالعلاقات مع الشركاء الاستراتيجيين، وهنا أتذكر ما قاله خروشوف في مذكراته خلال أزمة كوبا عام 1962 مع احتمالات المواجهة النووية بين القطبين، استشار خروشوف مستشاريه حول الحلول فوجد رأياً غريبا فلم يهتم هؤلاء المستشارون بالدمار القريب والكارثة الانسانية المحتملة، وانما أشاروا إلى أن الصين وألبانيا ستهزآن به وبالاتحاد السوفيتي إذا سحب الصواريخ من كوبا، ضحك خروشوف واختار واقعية الانسحاب.
لأمن الكويت ثلاثة مفاتيح، أولها شعب الكويت وشدة وطنيته، والثاني المملكة العربية السعودية بارتباطها الأمني التاريخي، والثالث الشريكان الاستراتيجيان وهما الولايات المتحدة وبريطانيا، والباقي قيمة مضافة، فلا تهاون في أمن الكويت مهما كانت عواصف المشاعر.
***
فقدت صديقاً آخر هذا الأسبوع بوفاة المرحوم يعقوب يوسف النفيسي (العم أبو عادل)، رجل الأعمال الناجح الخفيف الدم المستقيم، عاش وشاف وأعطى كثيراً من فيض التفاؤل بالابتسامة الدائمة.
كان المرحوم عاشقاً لهذا الكوكب، محباً للحياة، مسافراً دائماً، باحثاً عن جمال الدنيا في ربوع أوروبا والجزيرة العربية، تردد على ايطاليا منذ الأربعينات، وأحب ميلانو في شياكتها وفي مقاهيها، وكان يحدثنا ونحن طلبة في القاهرة عن الدوما – Duma ملتقى المقاهي والمطاعم في ميلانو، فاقتنعت من أطروحات التجميل التي يكررها عن مشاهداته وبالفعل اقتفيت أثره، وكنت في ميلانو في أوائل الستينات.
أحب فيه النظرة الشبابية والبهجة التي زينت حياته، وسعيه لهضم الكثير من منابع السرور فيها، تدهورت صحته مؤخراً فتوقف القلب تاركاً مجموعة من الأبناء ورثوا عنه حب التجارة وتجمع الأصدقاء، رحمه الله وأسكنه واسع جناته.. كانت دنياه مخزناً للحيوية.