سلطان البازعي 

قال عمدة مدينة روان عاصمة مقاطعة النورماندي الفرنسية لمجموعة من قيادات الجاليات المسلمة في مدينته الذين استدعاهم إلى مكتبه: «أمامكم مهلة أخيرة لتصفية خلافاتكم وإلا حولت هذا المركز الإسلامي إلى نادٍ ليلي».


العمدة روى هذه الواقعة بنفسه للسفراء العرب الذين زاروا مدينته أواسط الثمانينات الميلادية في حفل غداء أقامه على شرفهم للاحتفال بافتتاح المركز الإسلامي الجديد، الذي تم بنائه على نفقة الدول العربية والمملكة في مقدمتها بعد أن تبرعت بلدية المدينة بالأرض الفسيحة ذات الموقع المتميز لبناء جامع ومركز ثقافي وروضة أطفال وخدمات أخرى للمسلمين المقيمين في هذه المدينة، ولكن سبق الافتتاح خلافات حادة بين أعضاء الجاليات المســلمة وصلت إلى اشتباكات عنيفة أوقعت إصابات بين المتصارعين على من يتولى رئاسة المركز وإمامة الجامع، ما استدعى تدخل الشرطة لفض الاشتباكات وإلى أن يطلق العمدة هذا التهديد الصارم.

عمدة المدينة لم يكن يحمل بالتأكيد أي عواطف خاصة نحو الإسلام، وعلى رغم تهديده الصارم فقد كان هو الذي وقف وراء تبرع المدينة بالأرض التي أقيم عليها المركز، وإن لم تخني الذاكرة فقد كان ينتمي إلى الحزب الشيوعي، لكنه كان يدرك أن الحقوق الدستورية لمواطني مدينته من المسلمين (معظمهم من المهاجرين من المغرب العربي) تفرض عليه أن يعطيهم حقوقهم الدينية كاملة، هذا إلى جانب الأسباب الانتخابية والحرص على كسب أصوات هؤلاء الذين أصبحوا مواطنين ويشكلون ثقلاً انتخابياً.

تداعت هذه الأحداث إلى الذاكرة في وسط الأنباء الواردة من النمسا عن إغلاق سبعة مساجد وطرد مجموعة من الأئمة على خلفية تمويل أجنبي وتحريض سياسي مباشر يهدد بتعكير صفو الأمن المجتمعي، بل أن المستشار النمسوي سيباستيان كورتز قال صراحة إن هذا التحرك هو موجه في شكل خاص ضد الإسلام السياسي.

أما الأسباب المباشرة لهذا التحرك العنيف من الحكومة النمسوية فقد كان تسرب صور لنشاط أقيم في أحد هذه المساجد لتمثيل معركة غاليبولي التي دارت رحاها قرب مضيق الدردنيل في الحرب العالمية الأولى، وحاول الحلفاء فيها السيطرة على المضيق وقاموا بإنزال بري لاحتلال إسطنبول، لكن الأتراك (العثمانيون) تمكنوا من ردع الهجوم وانسحبت قوات الحلفاء، وفي المشهد التمثيلي قام مجموعة من الأطفال يرتدون أزياء عسكرية بتمثيل دور الجنود وقاموا بتغطية القتلى بالعلم التركي.

الضجة الإعلامية التي أثارتها وسائل الإعلام النمسوية كانت الشرارة التي حركت رد الفعل النمسوي بإغلاق المساجد وطرد الأئمة، وهؤلاء جميعاً يتبعون منظمة إسلامية مرتبطة في شكل مباشر بالحكومة التركية.

والحقيقة أن النمسا التي سارعت الحكومة التركية بوصف تحركها بتهمة «الإسلامفوبيا»، كانت احتفلت قبل سنوات قليلة بمرور 100 عام على اعترافها بالإسلام كدين رسمي (منذ 1912)، وضَمِن الاعتراف الرسمي بالدين الإسلامي حقوق الجالية المسلمة في مواضع مختلفة، مثل حرية ممارسة الشعائر الدينية، وحرية المسلمين في تنظيم الرعاية الدينية الخاصة بهم، وحصول مؤسساتهم على حق حماية جميع أنشطتها الاجتماعية والثقافية والمالية. وتم تشكيل الهيئة الدينية الإسلامية في 1979، لتكون الممثل الرسمي للمسلمين أمام السلطات النمسوية. واستناداً إلى هذه الحقوق، تمكنت الأقلية المسلمة من رعاية أبنائها بالمدارس بمعونات حكومية بحيث يستفيد عشرات الألوف من أبناء المسلمين في مراحل التعليم المختلفة، إضافة إلى حقوق أخرى عدة. ويوجد في النمسا أكثر من 87 مسجداً منها 27 في العاصمة فيينا، تخدم حوالى 340 ألف مسلم ثلثهم من أصول تركية. ولا ننسى أن العاصمة النمسوية هي مقر مركز الملك عبدالله العالمي للحوار بين أتباع الديانات.

ليــــــس الغرض هنا هو الدفاع عن النمسا في تحركها ضد هذه المساجد والمراكـــز ذات التـــمويل التركي، فالحال قد يكون مشـــابهاً في كل الدول الأوروبيــة ذات الأنـــظمة الديمــوقراطية العلمانية التي تحمي وتدعم حـــقوق الأفراد خاصة من مواطنـــيها في معتقداتهم، بحكم المبادئ الدستورية التي تعتنقها، لكن التحرك النمــسوي قد يتبعه تحركات مشابهة في عدد من الدول الأوروبية، خاصة التي تحتضن أعداداً من المهاجرين المسلمين أصبحوا مواطنين فيها، وأقربها ألمانيا.

كما أنه ليس هدفاً لهذه المقالة الدفاع عن مبادئ الديموقراطية والعلمانية، فإن الممارسة الطويلة لهذه المبادئ لم تنتج العدالة المفترضة، ولم تعصم الغربيين على رغم كل ما يقال عن وعيهم وتقدمهم من أحاسيس الكراهية والتفوق العنصري، لكن الإشكال الذي يجب بحثه هو كيف نتعامل نحن كمسلمين مع هذه المبادئ، سواء في بلداننا أم في البلدان المضيفة لأبنائنا، ثم كيف نستثمرها في الدعوة إلى دين الله عن طريق تقديم أنفسنا عناصر إيجابية تبني ولا تهدم.

من الواضح من استخدام المستشار النمسوي لوصف «الإسلام السياسي» أنه يريد أن يمنع استغلال الحرية المعطاة للمسلمين لتنفيذ أجندات سياسية لحكومات الدول التي أتوا منها أو لتصفية حسابات إقليمية وطائفية، ومن الواضح أيضاً أنه يقصد أن هذه الجمعيات التركية تريد إثارة النعرات القومية العثمانية لمصلحة الحزب التركي الحاكم، عن طريق الدعاية المباشرة له، أو الأسوأ –بالنسبة للنمسويين- هو محاولة التأثير في القرار الوطني، خاصة إذا عرفنا أن النمسا رفضت السماح بأي دعاية انتخابية للرئيس التركي على أراضيها.

الغرب الديموقراطي العلماني يمكن أن يقبل الإسلام النقي المعتدل، لكنه وبكل تأكيد لن يقبل أن ننقل إليه صراعاتنا السياسية والمذهبية والعرقية.

ومن الواضح أكثر أن أحزاب الإسلام السياسي لا يمكن أن تكون ديموقراطية حتى لو أخذت المسار الديموقراطي للوصول إلى الحكم، وهي بالتأكيد ليست علمانية مهما حاول أردوغان أن يؤكد.