محمد البشاري

يوجد في فرنسا 186 مؤسسة إصلاحية تتفاوت مساحة غرفها الخاصة بنزلائها بين سجون إصلاحية ومؤسسات عقابية خاصة بأصحاب القضايا الإجرامية الكبرى الإرهابية على سبيل المثال، إذ تجبر ما بين شخصين وثلاثة أشخاص، وأحياناً أكثر، لمشاركة زنزانة تبلغ مساحتها 9 أمتار مربع وحوالي 1500 شخص يفترشون كل ليلة مراتب على الأرض. مثلاً في مدينة بجنوب فرنسا في كل طبقة من طبقات سجنها 80 معتقلاً بدلاً من 40، هناك 3 سجناء في زنزانات لا تفوق مساحتها 9 أمتار مربع، هذا ما يجعل السجن المكان الأكثر خصوبة للمعتقلين من المتطرفين لتجنيد شباب الضواحي الجانحين والغاضبين من مجتمع يعتبرون أنه يحقد عليهم ويعمل على تهميشهم.

وحسب تقرير الإدارة العامة للسجون الصادر مطلع 2018، تم احتجاز 68.974 شخص في السجون الفرنسية، مقابل 59.765 مكان للتشغيل، 60% من نزلاء السجون هم من المسلمين على حسب تقرير النائب الجمهوري «غيوم لاريفيه»، وأحياناً ما يقارب 70%، أو حتى 80% في السجون القريبة من المدن الكبرى «الضواحي»، ثمانية من أصل عشرة سجناء، ليستنتج النائب تمدد هذه الظاهرة الخطيرة إلى باقي السجون الفرنسية في العشر السنوات القادمة، إذ حكم على أكثر من 500 آخرين بتهمة ارتكاب أفعال مرتبطة بـ«شبكة إرهابية»، وأنه تم التعرف على 1150 شخصاً من قبل سلطات السجن على أنها «متطرفة»، ولها القابلية للقيام بأعمال إرهابية. ولقد أخرج تاريخ السجون الفرنسية عدة عناصر إجرامية أفزعت أمن المجتمع الفرنسي منذ التسعينيات من القرن الماضي. فما إن انحسرت موجة الحزن والتأثر التي عاشتها فرنسا تحولت الاعتداءات التي نفذتها شبكة كواشي إلى مرآة وضعت الفرنسيين وجهاً لوجه مع جملة من المشكلات العضوية الملازمة لمجتمعهم.

صحيح أن «الأخوين كواشي» أعلنا انتماءهما إلى تنظيم «القاعدة» في شبه الجزيرة العربية، وصحيح أن شريكهما أحمدي كوليبالي أعلن ولاءه لـ «داعش» ولأبو بكر البغدادي أمير التنظيم، لكنّ كلاً من سعيد وشريف كواشي اللذين نفذا الهجوم على صحيفة «شارلي إيبدو»، حيث قتلا 12 شخصاً، وكوليبالي الذي نفذ اعتداءي «مونروج» و«بورت دوفنسان»، وتسبب بمقتل 5 أشخاص، هم فرنسيون ولدوا ونشأوا على الأراضي الفرنسية.

التحق الإرهابيون الثلاثة بمدارس الجمهورية، لكن النظام التعليمي الفرنسي لم ينجح في تكوين رابط يدفعهم للاندماج في المجتمع، فترعرعوا على الهامش وسط البؤس والإنكار. انحرفوا ودخلوا السجن، حيث لجأوا إلى الدين ليكوّنوا لأنفسهم هوية، لكنهم صادفوا من ضلّلهم، فتطرفوا وروعوا فرنسا على امتداد أيام عدة انتهت بمصرعهم برصاص القوات الخاصة. وعلى غرار «مهدي نموش» الفرنسي المتهم بتنفيذ الاعتداء على المتحف اليهودي في بروكسل، ومحمد مراح الذي نفذ اعتداءات تولوز ومونتوبان من المرجح أن يكون أعضاء شبكة «كواشي» تجذروا في سجن فلوري ميروجيس، حيث تعرف شريف كواشي على كوليبالي.

في السجن نفسه صادفا الأصولي جمال بيغال المعتقل بتهمة الإعداد لاعتداء على مقر السفارة الأميركية في باريس بعد أن تلقى تدريبات عسكرية في كل من أفغانستان وباكستان، والذي حاول تهريب إسماعيل آيت بلقاسم من السجن لإدانته بإعداد العبوات التي استخدمت خلال الاعتداءات التي شهدتها باريس ومناطق أخرى عام 1995، وأعلنت «الجماعة الإسلامية المسلحة» الجزائرية مسؤوليتها عنها.

أما التوجه الرسمي في التعامل مع أوضاع السجون، وفقاً لتقرير مجلس الشيوخ عن الإسلام في فرنسا، المعد من طرف السيناتور «فرانسواز جاتيل» وإقدامه يوم الخميس الماضي على تمرير مشروع قانون لفرضه على المرشدين الدينيين داخل السجون، يقضي بضرورة التدريب المهني المتقن لتحصين النزلاء في السجون من خطط التجنيد الإرهابي، ورفع عددهم من 180 حالياً إلى 345 وبإنشاء هيئة لمكافحة التطرف العنيف وفقاً للتقرير. فهل ستنجح فرنسا في القضاء على تفريخ إرهابييها من سجونها؟ وهل تستطيع مؤسساتها الإسلامية تحمل مسؤوليتها المجتمعية في نشر ثقافة الاعتدال بين أوساط شبابها من خلال تأسيس معاهد شرعية قادرة على رفع هذا التحدي؟ وهل يمكن التوفيق بين علمانية الدولة، وضرورة مصاحبة المؤسسات الإسلامية للقيام بدورها الرسالي؟ أما موضوع عزل المعتقلين المتطرفين للحؤول دون تأثيرهم السلبي على سواهم من باقي المعتقلين، فلم يحسم بعد بانتظار تقويم تجربة العزل المطبقة حالياً على حوالي 23 معتقلاً إرهابياً في أحد السجون الفرنسية.