سليمان جودة

تقع اليونان في جنوب أوروبا، ويقع الأردن في شمال آسيا، ولا يجمع بينهما شيء، ومع ذلك، فما أشبه الأحوال في الأردن قبل أسبوعين أو ثلاثة، بالأحوال في اليونان قبل ثمانية أعوام!.. ما أشبه الحال بينهما، وكأنهما كانا على موعد مع طوق نجاه يمتد إليهما.. كل حالة على حدة!

فقبل ثماني سنين، استيقظت أثينا على وقع أزمة في اقتصادها، غير مسبوقة، ولقد بدت في تلك الأيام، وكأنها غريق يقاوم الموج في عرض البحر، ويوشك أن يذهب نحو الأعماق!.. كانت ديون سنين قد تراكمت على الدولة، وكانت أعراض المرض في جسد الاقتصاد قد تجمعت، وكأنها على موعد تلتقي فيه، وكانت الحكومة اليونانية تبدو مُرهقة، مُنهكة، تظهر على وجهها ملامح الإعياء!.. وكان الدائنون يدقون الباب، ولم يكن عندهم استعداد للانتظار، ولا للإمهال، ولا لمنح المريض المتهافت أمامهم فرصة أخرى، يسترد فيها عافيته، ويستعيد فيها بعضاً من قوة كانت قد تهاوت تحت أقدام الديون الضاغطة!
وحين يكون المقام مقام حديث عن ديون على الدول والحكومات، وعن عجز المدين عن الوفاء بديونه في موعدها، فليس أشهر هنا من صندوق النقد الدولي، ولا من البنك الدولي، ولا من مؤسسات دولية مماثلة تظل تمنح قروضها، دون أن تحتفظ في ساعة السداد بشعرة معاوية بينها وبين المقترض.. إذا شدها هو، أرختها هي!.. وإذا أرخاها هو، شدتها هي.. فلا تنقطع!

ولا تزال شعرة معاوية نموذجاً للعلاقة بين طرفين، كيف يمكن أن تستمر وتدوم.. ولا يزال معاوية.. ذلك الخليفة الأموي الداهية.. أستاذاً في فن العلاقات، كيف تقفز فوق العثرات، فلا تنهدم ولا تنهار، ويستوي فيها أن يكون طرفاها شخصين من آحاد الناس، أو من غير آحادهم، أو أن يكون الطرفان دولتين، أو كيانين كبيرين من نوع اليونان وقت أزمتها، في ناحية، ثم الصندوق والبنك في ناحية أخرى!
ومن حسن حظ حكومة اليونان أن الأزمة فاجأتها، وهي، أي اليونان، عضو في الاتحاد الأوروبي، الذي لم يسمح لنفسه أن يقف متفرجاً بينما واحدة من الدول الأعضاء تعاني أمامه، وتقترب من وضع تعلن فيه إفلاسها على الملأ.. فليست هذه هي التقاليد التي قام على أساسها الاتحاد، ولا هذه هي الروح التي تجمع أعضاءه بعضها إلى بعض، ولا اليونان هي الدولة التي يمكن أن تكون كعب أخيل في الاتحاد.. ومن مصادفات القدر أن كعب أخيل أسطورة يونانية قديمة في الأساس، وقد كان هذا الكعب، ولا يزال، يُضرب به المثل على نقطة الضعف التي يمكن أن تكون مدخلاً للقضاء على الخصم، سواء كان الخصم دولة تتألم، أو كان شخصاً يكابد!
وما حدث أن الاتحاد تقدم يُلقي بطوق نجاة إلى اليونان، لعله ينتشلها مما هي ذاهبة إليه.. وتلقفت اليونان من جهتها طوق النجاة، وتشبثت به كما يتشبث الغريق بالقشة تقع عليها عيناه.. وكان الاتحاد يقذف بطوق النجاة وهو يعرف أن غرق دولة من الدول المنتظمة في عضويته، معناه اهتزاز الأرض من تحت قدميه، ومعناه أنها سابقة يجوز أن تتكرر على مستواه، ومعناه أنه يتخلى عن مسؤولية لا بديل عن أن ينهض بها، ومعناه أن العلاقة بين عواصمه، ليست هي العلاقة التي من الواجب أن تقوم بينها، ومعناه أنه كاتحاد لا يزال مضرب الأمثال في التماسك، وفي البأس، وفي الحرص على مبادئ قام عليها، سوف لا يتبقى منه، ولا من هذه المبادئ، شيء!
صحيح أن أعراضاً من أعراض المرض القديم، لا تزال بادية أمام العين المجردة على الوجه اليوناني، وصحيح أنها لا تزال إلى هذه اللحظة تتعافى وتحاول أن تقف على قدميها، كما كانت قبل أن يهاجمها المرض، وصحيح أن الموج لا يزال يناوشها، ولا تزال كل قدم من قدميها الاثنتين تجاهد ألا تنزلق، ولكن الثابت أنها بلغت شاطئ البحر، وأن طوق الاتحاد هو الذي بلغ بها فوق الشاطئ، وأن جرعات العلاج التي يتيحها لها الاتحاد على مراحل ثلاث حتى الآن، قد غالبت خلايا مرض كاد يفتك بها!

وكذلك الحال مع الأردن، حين صحا أشقاؤنا فيه، في ليلة من ليالي رمضان، على حالة مشابهة لحالة اليونان.. لم تكن حالة طبق الأصل بطبيعة الحال، ولا كانت نسخة مطابقة مما عاشه اليونانيون، ولكن الأجواء كانت قريبة، والأصداء في عمان كانت تعيد التذكير بما كان يوماً في أثينا، وإنْ بدرجات تتفاوت تفاوت الاختلافات الطبيعية بين بلدين يقعان في قارتين متجاورتين!
ولكن الله الذي قيض لليونان اتحاداً أوروبياً نهض بمسؤوليات، لم يكن من الممكن الهرب منها، قيض للأردن قمة رمضانية دعا إليها في مكة المكرمة، خادم الحرمين الشريفين، الملك سلمان بن عبد العزيز، وحضرها الشيخ صباح الأحمد، أمير الكويت، والشيخ محمد بن زايد، ولي عهد أبوظبي، وكان الملك عبد الله الثاني، عاهل الأردن، شاهداً على القمة ورابعاً على مائدتها!
وكان الهدف دفع خطر عن الأردن، كانت بوادره تلوح من بعيد، ثم كان الهدف أن يقال بأوضح لغة، إن هذا العالم العربي الذي تجرع في 2011، مرارة ليس مستعداً لأن يتجرع المرارة ذاتها مرة ثانية.. ولم ترفع القمة أعمالها إلا وكانت الرياض، وأبوظبي، والكويت، قد مدت طوق نجاتها، فأخذت الأردن بعيداً عن أنياب ذئاب كانت تتحين الفرصة، وكانت تنفخ في النار لعلها تشتعل من جديد!
شيطان الربيع العربي سوف يظل يحاول.. ولكنه سوف ييأس كل اليأس، وسوف يُحبط كل الإحباط، إذا وجد روح قمة مكة في انتظاره أينما توجه، أو حلّ، أو ذهب!