صلاح سالم

بحسب تيار «المثالية الذاتية» وهي مدرسة فلسفة تعلي من شأن العقل على حساب الواقع في بنية المعرفة العلمية، تصبح تصوراتنا عن الحقيقة (رؤيتنا للعالم والواقع) نابعة من أذهاننا نحن، لا من أي ظواهر خارجية، وهو ما يقود إلى صعوبة بناء منظور/ نموذج إرشادي مستقر أو مجتمع علمي متماسك. وربما لذلك تجاوزت الفلسفة عموماً ونظرية المعرفة خصوصاً هذا التيار، خصوصاً منذ إيمانويل كانط، الذي صاغ قبل أكثر من قرنين، النظرية النقدية أو ما يسمى بـ «المثالية التجريبية» التي مثلت على صعيد الفلسفة ما يوازي الانقلاب الكوبرنيكي على صعيد الفلك، حيث الواقع المادي قائم ومعترف به اعترافاً كاملاً، ولكنه لا يستطيع أن يعطينا سوى انطباعات أو مدركات حسية لا يمكن فهمها أو تحويلها إلى أفكار إلا من خلال العقل البشري ومبادئه الكلية، التي تحتوي على مقولات (وسائط للفهم والتأمل والتحليل) من قبيل الزمان والمكان والعلية، تنظم الواقع وتجعله قابلاً للفهم العقلي، حيث صار العالم الطبيعي يدور في فلك العقل الإنساني، الذي احتل موقع المركز في عملية الفهم، مثلما تدور الأرض حول الشمس التي احتلت موقع المركز في النظام الفلكي.

في عالم اليوم، أي بعد قرنين وبضعة عشر عاماً على رحيل كانط، حيث صارت الأفكار مشاعاً عبر وسائط تداول لا نهائية القدرة والطاقة، متنامية الحيز والنطاق، من دون مراكز محددة لإنتاجها أو بلورتها أو وسائل فعالة لترشيدها إن لم يكن مراقبتها، سوى ضمير الفاعل الاتصالي أو فضيلته الذاتية، بات الطريق مفتوحاً لاستعادة المثالية الذاتية، وتغييب النزعة النقدية ولو من دون أن يعي القائمون بذلك مغزى ما يقومون به من ترويج للنزعة النسبوية على صعيد المعرفة، ما يسهم في تغييب مفهوم الحقيقة.

بل الأخطر من ذلك صعوبة أن نفصل مفهوم الحقيقة/ نظرية المعرفة عن مفهوم الفضيلة/ نظرية الأخلاق، حيث يختلط المجالان التداوليان ليصبغا عالم السياسة بصبغتيهما، ويحيلانه إلى تلك الفسيفساء التي نراها اليوم، فلم تعد الأفكار تقاس بعمقها بل بمساحتها، أي حاصل ضرب طولها في عرضها، وصار العالم السياسي، الذي يدور حول طلب السلطة والتنافس عليها، قائماً لا على أساس خطابات أيديولوجية متصارعة على نحو ما كان الأمر في ظل الحداثة السياسية، بل على مجرد القدرة على الإغواء والإيهام والمراوغة والتحايل، في مواجهة جمهور اتصالي لم يعد قادراً على طلب الحقيقة بأي معنى، بل صار باحثاً عن تحقيق رغبات قد تكون غريزية أحياناً في قضايا كالإرهاب أو الهجرة وغيرها من قضايا معقدة وعصية يطلب لها حلولاً بسيطة وسريعة.

وهنا تنمو النزعات الشعبوية كتجسيد للاعقلانية حديثة، كما تنبت زعامات وهمية لتلبي الطلب عليها من نسيج المجتمعات المختلفة فتكون طائفية هنا ونازية هناك وفوضوية في كل الأحوال.

يمكننا الادعاء هنا بأن ما يعيشه عالمنا السياسي اليوم من ممارسات تمت بصلة إلى ما بعد الحقيقة ليس إلا نتاجاً لأربعة عقود من مغامرة التفكيك على الصعيد الفكري، والتي مثلت قفزة في فراغ ثقافي كان يتمدد منذ السبعينات، لكن التكنولوجيا الحديثة، خصوصاً الثورة المعلوماتية ووسائط التواصل الاجتماعي، وفرت له تدريجاً كل الأسباب التي جعلت منه تياراً دافقاً، ومنحته إطاراً عريضاً للفعل وإظهار نزعاته العبثية، وهي نزعات ستبقى مستمرة وربما متزايدة طالما استمرت آليات إنتاجها قائمة. وهكذا لا تعدو مقولات ما بعد الحداثة التي راجت في فكر نهايات القرن العشرين، وولّدت مقولات ما بعد الحقيقة في بدايات القرن الحادي والعشرين، أن تكون وصفة تعمي عن أزمة الحداثة ومشكلة الحقيقة في آن من دون قدرة على حل أي منهما، إذ تقود إلى اضطراب في الغاية والهدف معاً. وبدلاً من تنقيتهما كليهما من شوائب التسلط والأحادية والقهر تدشيناً لوعي جديد يحفظ للحقيقة ممكنات حضورها كاملة، ويتجاوز في الوقت نفسه وثوقيتها الساذجة التي تعوق تعددية الطرائق التي يمكن النظر إليها من خلالها، يجري الآن طمس هذه الحقيقة لا تنقيتها، بوضعها في غلاف رمادي يحرمها الوضوح الذاتي، أي إمكانية القول الموجب عن عالمنا، والإبانة عن مجرياته، وتحديد وصفة واضحة لمقاربته، تسهّل فهم تحولاته حتى لمن يرفض أو يكره تلك التحولات.

نحتاج، جوهرياً، إلى إعادة بناء مشروع التنوير في ذروته الكانطية التي ربطت بين مفهوم الحقيقة العلمية ومفهوم الواجب الأخلاقي، مثلما ربطت بين الديموقراطية الليبرالىة في المجتمعات المحلية وبين السلم العالمي الدائم. بل إننا نحتاج إلى حماية هذا المشروع من بعض أهله، فلا الشعبوية الأوروبية اليوم تمثل كانط بأي حال، ولا الرئيس دونالد ترامب ينتمي بأي وجه إلى عصر العقل الأميركي كما مثله توماس بين أو بنيامين فرانكلين، ولا إلى تقاليد المقعد الرئاسي الذي شغله سلف كجورج واشنطن أو جون آدمز الأب، ناهيك عن توماس جيفرسون وأبراهام لنكولن أو حتى، يا للمفارقة، باراك أوباما في ذلك العهد القريب.

إنه طريق طويل ومضن بقدر ما أن السير عليه يظل ضرورياً بل ممكناً، يزيد من قيمته وفحواه مستودع الخبرة البشرية الذي ينطوي دائماً على ما يمكن العودة إليه، وإلا فما معنى التاريخ أو قيمته. وهذا شرط أن لا تكون العودة إلى جسد مادي يتمثل في هياكل قديمة متآكلة، بل إلى الروح الخلاقة، والقيم الإيجابية الحافزة، القادرة على أن تلهمنا، وتمنحنا القدرة على بناء أشكال تنظيم وممارسة مغايرة. ولعل هذا الفهم هو ما يؤمن به ويدافع عنه الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس، كوريث شرعي لمدرسة فرانكفورت، حيث أزهرت الفلسفة النقدية وأثمرت ما لا يمكن تجاهله أو قبول القطيعة معه، وحيث العقل التواصلي لا يزال يمثل فرصة لقبول الاختلاف من دون تفكيك للحقيقة، ولجم اندفاعات القوة بشيء من الحكمة لا يزال البعض، لحسن الحظ، يراه ضرورياً وممكناً.

* كاتب مصري