الياس حرفوش

لم يغب العراق يوماً عن واجهة الأخبار منذ الحرب التي أطاحت بصدام حسين وما تلاها من غزو واحتلالات. لكن العراق يتصدر الأخبار هذه الأيام، ليس من باب الحرب على «داعش» أو من باب الصراع بين القوى السياسية على تشكيل حكومة جديدة، بل من باب الاحتجاجات الواسعة التي شهدتها مناطق الجنوب العراقي، والتي طالب المتظاهرون خلالها بتوفير الحد الأدنى من الحاجات اليومية للناس، من ماء وكهرباء وخدمات أساسية، في موسم صيف حار تتجاوز الحرارة فيه درجة الخمسين.

ليست هذه المرة الأولى التي تشهد البصرة ومدن الجنوب العراقي احتجاجات من هذا النوع ترفع نفس المطالب. الشيء نفسه حصل عام 2015. وفي ذلك الوقت دعم الزعيم الشيعي مقتدى الصدر تلك المظاهرات التي ارتفعت فيها أصوات ضد الفساد الحكومي والبطالة وسوء الخدمات. وقيل آنذاك إن دعمه هذا هو الذي عزز موقعه الشعبي بين الشيعة العراقيين.

غير أن الاحتجاجات الأخيرة كانت أكثر اتساعاً وحمّلت حكومة حيدر العبادي مسؤولية تدهور الخدمات، فيما العراق غارق في أزمة حكومية بعد الانتخابات الأخيرة التي أدت إلى فراغ حكومي وشلل سياسي، حيث يستمر الجدل حول النتائج وتوزيع القوى السياسية، وبالتالي حول صاحب الحق في تشكيل الحكومة الجديدة.

ومن الطبيعي أن يشكو أهل البصرة وسائر مدن الجنوب من نقص الخدمات. فالبصرة، التي كان يطلق عليها في زمن ما «بندقية شط العرب»، تمثلاً بالمدينة الإيطالية الشهيرة، هي المدينة ذات الأكثرية الشيعية التي دفعت أثمان كل الحروب التي مرت بالعراق من عهد صدام حسين وحروبه مع إيران إلى اليوم. وهي المدينة التي تعوم على النفط في بلد يمثل النفط فيه 95 في المائة من إيرادات الدولة، فيما يشكو سكانها من العمل في جمع النفايات ليتمكنوا من إطعام أطفالهم من فضلاتها. أحدهم يقول: نسمع نحن أهل البصرة عن نفط العراق وموارده الهائلة لكننا لم نستفد أبداً من مميزاته.

لذلك لم يكن مستغرباً أن تتسع المظاهرات لتصل إلى حقول النفط والغاز في محافظة البصرة. كما أغلق المتظاهرون ميناء أم قصر قبل أن تتوصل السلطات المحلية إلى اتفاق معهم على إعادة العمل بالميناء. واقتحموا مطار النجف وأوقفوا حركة الملاحة فيه قبل إعادة فتحه، فيما عمدت إيران إلى تحويل مسار الرحلات المقررة إلى النجف باتجاه بغداد. حاول حيدر العبادي احتواء الاحتجاجات على عدة اتجاهات. 

اتهم «مندسين» بارتكاب أعمال الشغب والاعتداء على الأملاك العامة وأعلن أنه لن يتساهل مع من يقومون بها. وأقال مسؤولين عن الأجهزة الأمنية في المحافظات التي شهدت اشتباكات وسقوط قتلى وجرحى. كما وعد بصرف 3 مليارات دولار على مشاريع في البصرة لتوفير فرص عمل ومساكن ومشاريع لتحلية المياه وتحسين إمدادات الطاقة الكهربائية. غير أن محاولات التطويق الحكومية لم تمنع توجيه الانتقادات إلى حزب «الدعوة» الذي ينتمي إليه العبادي. أحد المحتجين (وهو عاطل عن العمل) قال: حزب الدعوة يحكم العراق منذ 15 عاماً. وقادته لم يتمكنوا من الوفاء ولو بوعد واحد من الوعود التي قطعوها. ونقل مراسل صحيفتنا عن متظاهر آخر قوله: «منذ سقوط صدام عام 2003 حتى اليوم الشيء الحقيقي الوحيد الذي يقوله الساسة الشيعة هو أكاذيبهم. ما زلنا نشرب مياهاً قذرة، ونسينا ماذا يعني تكييف الهواء خلال فصل الصيف».

من الصعب فصل الجانب المطلبي في مظاهرات الجنوب العراقي عن الجانب السياسي وعن الضغوط الإيرانية التي تمارس على حيدر العبادي. من الصعب أيضاً عدم التوقف عند توقيت هذه المظاهرات التي انطلقت بعدما قررت إيران وقف إمداد العراق بالكهرباء في عز موسم الصيف الحار، ما ساهم بشكل مباشر في إشعال الاحتجاجات الأخيرة. والأكيد أن المسؤولين الإيرانيين كانوا يدركون أو يتوقعون وقع هذا القرار على أهل الجنوب الذين صب أكثرهم غضبهم على الحكومة العراقية، فيما قام آخرون بإحراق مقرات لميليشيات مثل «منظمة بدر» المحسوبة على إيران، وذكرت تقارير صحافية أخرى أن متظاهرين أحرقوا صوراً للمرشد الإيراني علي خامنئي، ومكاتب سياحة إيرانية في الجنوب. وبالطبع ليس بسيطاً حصول تحركات من هذا النوع ضد رموز إيرانية كبيرة في منطقة يشيع الإيرانيون أن ولاءها محسوم لهم.

في ظل موجة الغضب هذه على الدور الإيراني في العراق وعلى فساد المسؤولين الموالين لطهران، عمد بعض هؤلاء، وخصوصاً من جماعة «الحشد الشعبي» وأنصار رئيس الحكومة السابق نوري المالكي، إلى اتهام أبناء الفلوجة والرمادي بالمسؤولية عن إشعال المظاهرات، في خطة تهدف إلى إبعاد تهمة الفساد عن إيران وأنصارها، وتحويل الصراع إلى وجهة طائفية، بحيث يتجه المتظاهرون إلى اتهام حزب البعث وقيادات العشائر السنية بالمسؤولية عن أعمال العنف التي وقعت. حتى أن البعض اتهم رغد ابنة صدام حسين بدعم المتظاهرين!

في الوقت ذاته عمد قادة «الحشد الشعبي» إلى الدخول على خط قمع المظاهرات بالقوة، في مخالفة لتعليمات رئيس الحكومة حيدر العبادي الذي منع قوات الأمن من المواجهة المسلحة مع المتظاهرين. مثلاً، هدد قيس الخزعلي الأمين العام لـ«عصائب أهل الحق» بـ«قطع يد المتورطين» في الهجمات على مقرات «الحشد»، فيما تحدثت مصادر أخرى عن اعتقالات قامت بها «العصائب» في صفوف المتظاهرين وعن معتقلين أكدت مراكز الشرطة أنها لا تعلم شيئاً عنهم ولا عن مصيرهم.

وبالطبع لا يقتصر سوء الخدمات في العراق على محافظات الجنوب. فالمناطق ذات الغالبية السنية تعاني الوضع نفسه وأسوأ. غير أن أبناءها يتخوفون من نتائج الاحتجاج أو الخروج في مظاهرات، كي لا يتهموا بدعم «الإرهاب» أو مناصرة تنظيم داعش.

لكن المهم في ردود الفعل كان وقوف قيادات شيعية رئيسية مثل المرجع الأعلى السيد علي السيستاني ومقتدى الصدر وآخرين ضد هذه الاتهامات ودعوتهم إلى الوحدة الوطنية والدفاع عن مطالب المحتجين، ما يفترض أن يصب في مصلحة العبادي الذي يسعى إلى تطويق المظاهرات بأقل قدر من الخسائر السياسية. فهو يجد نفسه في وضع صعب. إذ إنه مضطر للتعامل مع المتظاهرين ومطالبهم بالحسنى كي لا ينفجر الوضع في وجهه بشكل أوسع، لكنه في الوقت نفسه غير قادر حالياً على اتخاذ قرارات حاسمة تسمح بتلبية المطالب أو بعضها، لأن ذلك يتطلب الاتفاق على إنفاق أموال لتلبية الخدمات الأساسية التي يريدها المحتجون، مثل الكهرباء والمياه الصالحة للشرب، وحل مشكلة البطالة المرتفعة.

في كل الأحوال، يدرك حيدر العبادي أن قرار إيران بقطع الكهرباء عن العراق في هذا الوقت هو رسالة تعني قطع الدعم السياسي عنه وفتح الباب أمام قاسم سليماني قائد «فيلق القدس» لاستغلال النقمة على العبادي وفرض رئيس حكومة جديد على العراقيين.