عزت صافي

يهبّ اللبنانيون وقوفاً عندما تصدح الموسيقى بالنشيد الوطني، ويتقاطر شهداؤهم في المواجهة مع العدو الإسرائيلي، وفي أفراحهم وأحزانهم تسود تقاليدهم وآدابهم بتقديم الأكبر سناً، والأكثر علماً أو شهرة، مع حب لبنان الوطن، والشعب والتاريخ، ويتبارون بالمديح والافتخار. وكم كتب الرواة والرحالة العرب، والأجانب، عن اللبناني الجبلي، والساحلي، المثال في كرم الضيافة، وحسن المعاملة، وحلاوة اللسان في المخاطبة، وينشأ الأولاد اللبنانيون في مدنهم وقراهم، وفي مدارسهم في صفوف الطفولة على البراءة ونقاء السريرة، والألفة، والوفاء المتبادل، ويلقنهم معلموهم الأوائل الأفاضل احترام الوطن، والإخلاص له، والتضحية في سبيله ليبقى حرّاً، سيّداً، مستقلاً.


تلك الأجيال اللبنانية التي نشأت على تلك المبادئ الوطنية، والقيم الأخلاقية، قرأت أيضاً كتاب استقلال لبنان عن الانتداب الفرنسي، كما قرأت دستوره الوطني وحفظت الفقرة الأساس في مقدمته، وخلاصتها «أن اللبنانيين متساوون في الحقوق والواجبات».

لكن لا يمرّ وقت طويل حتى تبدأ الأجيال اللبنانية الناشئة تكتشف «الخدعة» التي ابتلعتها في المدارس الابتدائية والتكميلية، خصوصاً إذا كان الأهل من ذوي القراءة في السياسة اللبنانية المحلية، على اختلاف مبادئها واتجاهاتها. فالمساواة في الحقوق والواجبات، كما في الدول المتوسطة بالديموقراطية والعدالة، غير ملزمة للدولة اللبنانية، نصاً أو تطبيقاً، ليس في العهد الحالي، بل في مختلف العهود السابقة منذ الاستقلال.

لكن العهد العوني الجديد مختلف بوجوه عدة عن العهود اللبنانية السابقة التي ترأسها مدنيون وعسكريون، فالرئيس ميشال عون ترشّح لقصر بعبدا منذ ثلاثين عاماً بالتمام والكمال، وهو صبر، وصمد طول تلك السنوات، على ما فيها من عقبات، وصدمات، وانتكاسات، في الوطن وفي الغربة، وظلّ على عزمه وعلى وعده لشعبيته باحتلال كرسي الرئاسة، وقد ساعدته الظروف والأحداث الإقليمية والداخلية على بلوغ هدفه.

ذلك الصبر الطويل والمرير الذي عاناه الرئيس عون حصّنه وأمدّه بالأمل وبالقدرة على تخطّي العقبات التي اعترضته، وكانت تلك السنوات قد أخذت الكثير من مخزون طاقاته الشخصية، لكـــنها لم تقـــلل من عـــزمه على اســـتحقاق لقب «فخامة الرئيس»، هذا اللقب الذي حمله قبله ثلاثة جنرالات لبنانيين: الجنرال فؤاد شهاب، والجنرال إميل لحود، والجنرال ميـــشال سليمان، وللتذكير فإن الجنرال شهاب عاند كثيراً قبل خضوعه للواجب الوطني، المدني والسياسي، وهو بدأ خطابه الرئاسي أمام مجلس النواب بعد أدائه القسم في 23 أيلول (سبتمبر) 1958 بالفقرة التالية: «بين مركز قيادة الجيش حيث الصمت رفيق الواجب، ومنبر هذه الندوة، حيث الكلام هو السيد، مسافة لعلها أصعب ما كُتب لي أن أجتازه منذ سلكت طريق الجندية».

في المحفوظات السياسية من ذلك الزمن تفاصيل لقاء بين الرئيس الجنرال شهاب وكمال جنبلاط في منزل الأول في جونيه بعد انتخابه، وقد جلس الزائر في الصالون الصغير وراح يتأمل لوحتين: الأولى تمثل صلاح الدين الأيوبي، والثانية على الجدار المقابل تمثل الشيخ طالب حبيش، وعندما لاحظ الرئيس شهاب اهتمام ضيفه باللوحتين قال له: «هذا البيت ليس من إرث أجدادي الشهابيين، إنما هو من إرث أجدادي لوالدتي آل حبيش، وقد ورثته الوالدة من أهلها، أما هذا الفرش القديم فهو من الطراز العربي الدمشقي، وقد اشتريناه من تعاونية الجيش بالتقسيط».

وخلص الرئيس شهاب في كشف البيان عن ممتلكاته، الى القول لزائره أنه «لا يملك شيئاً مهماً من مردوده الوظيفي».

وفي سياق حديث البساطة عن الضيافة قال الرئيس شهاب لجنبلاط: «ليس عندنا في البيت مطبخ، بمعنى «المطبخ»، لأن غداءنا وعشاءنا أنا وزوجتي (فرنسية من مدينة نيس) يأتيان في معظم الأيام من مطعم النادي العسكري». وأردف الرئيس قائلاً لضيفه: إذا كنت تقبل عزيمتنا على الغداء معنا فسوف نتصل بالنادي لنطلب وجبة إضافية»!..

كان الرئيس شهاب قد نصح أقطاب «الحركة الوطنية» في ذلك الزمن بقبول اعتذاره عن عدم قبوله الرئاسة، وقال لهم حرفياً: «إذا انتقلت من قيادة الجيش إلى رئاسة الجمهورية فسوف أفتح الباب أمام كل قائد ماروني ليطمح إلى الرئاسة، وهذا ما سوف يؤدي إلى خلل في الديموقراطية اللبنانية... على علاتها...»!

وقد صحّت رؤية فؤاد شهاب، وجاء بعده ثلاثة قادة عسكريين إلى القصر الجمهوري، وهم الجنرالات: إميل لحود، وميشال سليمان، وميشال عون.

حتى اليوم مضت سنة وعشرة أشهر من عهد الرئيس عون، وهذه مدة كافية لطرح السؤال: ماذا تغيّر في أوضاع لبنان الإدارية، والاقتصادية، والاجتماعية، وفي سياسة الدولة – الجمهورية مع الدول العربية وسائر دول العالم؟ وأي مسار فتح أمام لبنان أبواب عالم الـــسياحة والــــصناعة، والتجارة، والزراعة، والعلوم، والثقافية، وتبادل المبادرات؟.. أسئلة تُطرح في العاصمة والمناطق وفي الدول التي تستضيف مئات ألاف اللبنانيين العاملين فيها، وخصوصاً الدول العربية. أسئلة تُطرح ليس على سبيل النقد أو التحدّي، إنما على سبيل الاستفسار عن الأسباب التي أبقت لبنان على حاله، ومن دون الرجاء بالتحسّن في زمن قريب؟

في الذاكرة اللبنانية من ماضٍ غير بعيد، كانت أفواج المصطافين والزائرين العرب من أهل الاقتصاد والعلم والسياحة تملأ المصايف اللبنانية والعاصمة بيروت، نشاطاً وفرحاً وبركة. فأين هم الأهل والأخوة العرب؟ وأين أفواج السياح الأجانب؟ تساؤل يتردّد في وسط بيروت، وأسواقها، وفي مدن الصيف والفنون، والنشاط، والفرح، وقد ظهرت معالم الإفلاس والأقفال في شوارع كانت مقصد السياح الآتين من مختلف أقطار العالم.

حالياً جميع المناطق اللبنانية، البعيدة والقريبة تشكو أزمة كساد، وجمود، ولا رجاء على المدى القريب، أما أزمة الكهرباء فقد باتت من مستلزمات العهد الجديد كما قبله. هناك ثلاثة آلاف مولد كهرباء على أرض لبنان تنفث سمومها في فضائه وكلفتها تُسحب من مدخول العائلات الفقيرة والمتوسطة، ويتساءل عامة اللبنانيين: لماذا لا تشتري الدولة هذه المولدات وتضعها في خدمة الشبكات التي تغذي العاصمة والمحافظات. فالدولة، على الأقل، لا تأخذ من المستهلك العادي ما يعادل ربع دخله مقابل الحصول على بضع ساعات من النور.

وكان لا بد للعهد من إجراء انتـــخابات نيابية، وقد حصلت في أجواء راقية بالنظام، والأمن، وبأقل نسبة من الشكاوى، وجاءت النتائج بحصص كبيرة للعهد وللقوى والأحزاب القوية والمنظمة، ومع ذلك نشأ أمل بتشكيل حكومة جديدة تمنح اللبنانيين وعوداً بـ «لبنان جديد» فماذا حصل..؟

ها إن اللبنانيين يتابعون منذ شهرين متاعب ومصاعب تشكيل حكومة جديدة برئاسة سعد الحريري استناداً إلى الثقة التي أحرزها بالاستشارات.

وفي حين تبدو المرحلة صعبة حتى الآن لا يخفى على المتابعين أن هناك صراعاً على حصص طوائف ومذاهب وأحزاب لا تتأمن إلا من خلال احتكار وزارات معينة محسوبة من حصة العهد، خلافاً لأي نص دستوري.

لكنّ، ثمة لغماَ مكشوفاَ في الطريق إلى تشكيل حكومة الحريري في عهد الرئيس عون، وهو لغم قضية النازحين السوريين إلى لبنان، وهم يشكلون الكتلة الأكبر بالنسبة إلى أخوانهم وأهلهم المقيمين في دول عربية أخرى، أولها المملكة الأردنية الهاشمية، وكما هو واضح هناك اختلاف في أساس التعامل مع هذه الأزمة بين رئيس الجمهورية والرئيس المكلّف، فالرئيس عون يعطي توجيهاته إلى المراجع المسؤولة بضرورة التعامل مع المراجع المماثلة في الإدارة السورية لتسهيل «العودة الطوعية» للسوريين الراغبين في العودة، ولا بد من إدراج هذه المشكلة في البيان الذي ستتقدم به الحكومة إلى مجلس النواب طلباً للثقة، هذا إذا تشكلّت في وقت قريب.

وفي الانتظار، يعيش اللبنانيون حالاً من الانشطار في السلطة والرأي العام، ويعود التذكير بدستور الطائف لمعالجة كل أزمة على مستوى السلطة وعلى مستوى الرأي العام، أي الشعب. ويبقى شعار «التغيير» مطروحاً على كل المستويات، وهو الشعار الذي تحول عنواناً لحزب الرئيس ميشال عون. لكن «التغيير» مطلب تاريخي يعود إلى زمن بداية الاستقلال، وما يزال مطروحاً، واللبنانيون ينتظرون التغيير مع بداية كل عهد، وعندما يخيب أملهم، يعودون إلى الانتظار. واللبنانيون ما يزالون يحلمون بأقل الإنجازات كلفة، ومنها أن يكون صيفهم هدف الأخوان العرب الذين كانوا يقصدون بيروت والجبال، على أنها الأقرب بالمسافة، وفيها الطبيعة، والمدنية، والثقافة، والمودة المتبادلة مع الأهل والأصحاب، كما كانت في أزمنة مضت، وكأنها صارت من الذكريات.

هي السنة الثانية من عمر العهد، وقد اقتربت من نهايتها، وكأن العهد لم يبدأ بعد، لم يطرأ أدنى تحسن على الوضع اللبناني الاقتصادي، والاجتماعي، وليس في الأفق القريب بشائر تعاكس هذا الشعور. فهل ينجح الحريري بتشكيل حكومة العهد الأولى، وتنسحب غيمة القلق من الفضاء اللبناني، وينطلق العهد في لبنان؟