الحلقة الأولى في هذه التأملات كانت عن شمولية «الرؤية» وتنوّع مساراتها، وعدم اقتصارها على جانب دون آخر؛ حيث أُحكمت فصولها لتصبح إستراتيجية للنّهضة الشّاملة، تحت قيادة وإشراف وتوجيهات أمير القلوب محمد بن سلمان.

وتأتي الحلقة الثانية عن الرؤية والتعليم.

فما تم إنجازه في قطاع التعليم خلال الأعوام الماضية من عمر «الرؤية» مثّل نقلة نوعية حرّرت العملية التعليمية من مثاقيل التلقين، وحمولات الحفظ، إلى إعمال العقل الناقد، والفكر المنتج، بحثًا عن محصلة تعليمية منتجة، ومواكبة لحاجة سوق العمل، ومنسجمة مع إستراتيجيات وأهداف «الرؤية»، وباعثة على استنهاض روح التنافس في الابتكار والتجديد، بتسخير كافة الملكات؛ التي عطلتها عملية التلقين، بدورانها في دائرة الحفظ واستعادة المحفوظ، والانتقال الميكانيكي بما أنتج موظفين، وكتبة، وراكم من سطوة «البيروقراطية» والروتين القاتل لكل إبداع، ورغبة في التطوّر..

إن هذه النقلة النوعية نتيجة منطقية إذا ما تأملنا رؤية «الرؤية» لهذا القطاع وقد حددت مسارها بالذهاب نحو «تعليم مُتميز عالي الجودة بِكوادر تعليمية مُؤهلة لِبناء مُواطن مُعتزّ بِقيمه الوطنية ومُنافس عالميًا»، والغاية من ذلك تحقيق أهداف إستراتيجية غاية من الأهمية، من أبرزها: تعزيز القيم والانتماء الوطني، وتجويد نواتِج التّعلم وتحسين موقع النظام التعليمي عالميًا، فضلًا عن تطوير نِظام التعليم لتلبية مُتطلبات التّنمية، واحتياجات سوق العمل، وتنمية وتطوير قُدرات الكوادر التعليمية، وتعزيز مشاركة المُجتمع في التعليم والتعلم، وضمان التعليم للجميع وتعزيز فرص التعلم مدى الحياة، وتمكين القطاع الخاص وغير الربحي ورفع مُشاركتهم لتحسين الكفاءة المالية لقطاع التعليم، ورفع جودة وفاعلية البحث العلمي والابتكار، وتطوير منظومة الجامعات والمؤسسات التعليمية والتدريبية.

إن من العسير، حد الصعوبة، إحصاء ما أنجز في هذا القطاع خلال السنوات الماضية، فواقع الحال يشير بوضوح إلى أن «الرؤية» قد عملت على تطوير التعليم في مساراته المختلفة، سواءً فيما يتعلّق بالمعلم بوصفه الركيزة الأساسية في العملية التعليمة، أو الطالب كونه المستهدف الرئيس بهذه العملية والمعوّل عليه في إظهار نتائجها بما يخدم عملية التنمية، والمنهج باعتباره جوهر الرسالة المراد إنزالها على أرض الواقع، والمدرسة بوصفها البيئة الحاضنة لهذه العملية، بما يتوجّب إعدادها بالشكل الأمثل لتحقيق الغايات المنشودة.

والمحصلة من هذا الاهتمام تتجلى وتنعكس في مرآة النتائج الباهرة التي حققتها مدارس المملكة في «مؤشر ترتيب»، مقرونًا ذلك مع البرامج والمبادرات التطويرية الكبيرة التي أطلقتها وزارة التعليم، وبخاصة البرنامج الوطني للكشف عن الموهوبين، والأولمبياد الوطني للإبداع العلمي، مع تطبيق نظام التسريع في الانتقال عبر السلم التعليمي إلى صف دراسي أعلى، وزيادة فصول الموهوبين للبنين والبنات، إضافة إلى الاهتمام بالتربية الخاصة وتشغيل مراكز جديدة لها في عدد من المدن، ولا ننسى ما قامت به الوزارة كذلك من افتتاح لبرامج التدخل المبكر في الروضات الحكومية، وتدشين فصول الخدمات التعليمية للطلاب والطالبات المصابين بالأورام، وزيادة نسبة الالتحاق برياض الأطفال والصفوف الأولية، إضافة إلى مراكز للعلوم والرياضيات STEM في سائر مناطق المملكة، وغير ذلك مما يعز علينا حصره، مصحوبًا ذلك بانتهاج طرق تدريس حديثة، وتسخير التقنية المتطورة في ذلك من أجهزة حاسوب وآيباد، وسبورات ذكية، وغيرها من الأدوات التي رفعت مستوى التعليم، ووضعته في مصاف مواكب لرؤية المملكة، ومبشرًا بمخرجات تناسب إستراتيجياتها على المستويين القريب والبعيد.

وعلى مستوى التعليم الجامعي، فمحصلة اهتمام «الرؤية» ملأت سلالها من باهر النتائج المرضية، تجلت في ارتقاء مستوى البحث العلمي في المملكة، ودخولها ضمن أول عشر دول في مؤشر التنافسية العالمية، وتسجيل أغلب جامعاتها حضورًا مائزًا في المؤشرات العالمية في هذا المضمار العلمي الراقي.

إن هذه الصورة الباهرة لما تم إنجازه خلال المدة الماضية، تنتظر بعض المعالجات التي أرى ضرورتها حتى تكتمل المستهدفات المرجوة في قطاع التعليم، ومن ذلك على سبيل المثال، عدم إدراك بعض المعلمين في المراحل المختلفة لماهية «الرؤية» ومستهدفاتها، وما يجب عليهم من المواكبة واللحاق بالركب، والخروج من العباءة القديمة المسيجة في عملية التلقين، وتعطيل عملية التفكير الناقد، ولا أجد حرجًا في الإشارة إلى أن «البعض» من المعلمين ما زال يقع تحت تأثير فكر «الصحوة»، وإعادة إنتاج فكرة «المنهج الخفي»، باتخاذه مسارًا مخاتلًا يتوازى مع المنهج المرسوم، وفي هذا خطر عظيم يتهدد حركة المجتمع في انعتاقه من دائر الغلو والتطرف والانحراف الفكري الذي بلي به وطننا وشقي خلال سنوات مظلمة وكئيبة.

كذلك تحتاج العديد من المدارس في مختلف المراحل إلى إعادة تأهيل، وبخاصة في مجال تطوير معامل الحاسوب والتقنيات الحديثة، بما يزيد من فرص التدريب عليها، وعدم تحويل العلوم التطبيقية إلى مقررات نظرية، تجعل من الطالب مجرد حامل للمعرفة غير ممارس لها.

كذلك لا تبدو مساهمة القطاع الخاص في مجال التعليم بالقدر المطلوب، إذ المرجو أن يكون شريكًا أصيلًا في هذه العملية، ويتبنى مخرجات تطوير ودعم مشاريع التخرج وما تتضمنه من ابتكارات تنتظر التفعيل لتصبح تروسًا فاعلة في عملية التنمية والتطور.

كما أرى أن العملية التعليمية في ظل «الرؤية» فتحت مسارات جديدة؛ مثل دراسات السياحة والفندقة والتقنيات الحديثة وما في حكمها، بما يتطلب وعيًا مجتمعيًا بأهميتها، يتسرب إلى الطلاب ويتجلى في إقبالهم عليها بروح التنافس، والقدرة على إظهار البراعة والقدرة على ملئها بكل اقتدار وجدارة، فالمملكة مقبلة على تحولات كبيرة في عالم الصناعة ومفاهيم السياحة، وغيرها، بما يعني ضرورة تغيير النظرات الاجتماعية المحتفظة بصور سالبة لبعض المهن، حتى تكتمل الصورة الزاهية لمخرجات التعليم، والمساندة في الإطار الكلي لـ«رؤية 2030».

ونواصل..