بسبب فرادتها في محيطها المشرقي، تثير الخصوصية اللبنانية الكثير من المشاعر لدى مريديها ولدى خصومها على حد سواء في المدى اللبناني كما في محيطه. وهي حافلة بالطروحات والتساؤلات في أزمنة السلم والاستقرار، وأيضاً وخصوصاً في أزمنة الاضطراب الكبير، التي نعيشها، مرة أخرى، اليوم... من أين وإلى أين هذه الظاهرة في مهب التحولات «الجيو - سياسية» المشرقية؟

قلة تدرك سر الخصوصية اللبنانية، وكثرة تجهله، ما صعّب على الدوام، طوال الأزمنة الحديثة، ويصعّب اليوم أيضاً، فهم المسألة اللبنانية. وهي لم تكن تُعرف بـ«المسألة اللبنانية» قبل عام 1861، حين انتقلت كلمة «لبنان» للمرة الأولى، من الجغرافيا، اسم جبل فريد في عالمه، إلى السياسة، مع قيام «متصرفية جبل لبنان»، الكيان اللبناني الأول المتمتع بالحكم الذاتي داخل السلطنة العثمانية. لكن قبل 1861 بنحو ثلاثة قرون، وقبل أن تمتد تسمية «لبنان» من جبل لبنان الشمالي اليوم، وهو موطنه الأصلي، إلى جبل الشوف، ومن ثم شمالاً وجنوباً وشرقاً إلى «لبنان الكبير»، كانت النزعة إلى الخصوصية والحكم الذاتي والتوق إلى الحرية والانفتاح على الحداثة تحدد مسار هذا الجبل. ويضيق المكان الآن بالتوقف عند الوقائع السياسية والعسكرية والثقافية والاقتصادية الكثيرة لهذا التوجه، المستند إلى أسس جغرافية - تاريخية عميقة. ولا بدّ من الإشارة إلى تفاعل مجتمع جبل لبنان مع الحداثة قبل مائتي عام من سائر أنحاء المشرق، التي بدأت تفاعلها مع الحداثة مع حملة بونابرت على مصر عام 1798.

لا يمكن فهم الحركة اللبنانية، وإدراك كل ما أثير ويثار حولها من مشكلات، إلا عبر المعادلة التالية: تسعى هذه الحركة على الدوام إلى تجاوز النظام السائد حولها بحثاً عن أفق مختلف آخر، والنظام السائد حولها يسعى على الدوام إلى دمجها نهائياً فيه. صراع تاريخي طويل لا هوادة فيه بين طرفي هذه المعادلة، هو سرّ الخصوصية اللبنانية ومفتاح فهم مسارها على مدى الأزمنة الحديثة.

إنها الصورة نفسها التي تطالعنا، بأشكالها المختلفة، من أواخر القرن السادس عشر إلى القرن الحادي والعشرين، من الحالة العثمانية على مدى زمني طويل، إلى الحالة الوحدوية العربية (الناصرية والبعثية)، وقبلها وبعدها الحالة السورية (الفيصلية والسعادية والأسدية)، وصولاً إلى حالة ولاية الفقيه اليوم.

وكما هي القاعدة على الدوام في التحولات المجتمعية، لا بدّ من التقاء العوامل الداخلية والعوامل الخارجية لإحداث التحوّل، بنسبة أو بأخرى من الأهمية لكل منها، تختلف باختلاف طبيعة التحولات وظروفها التاريخية.

لم تهدأ محاولات التمايز في الجبل اللبناني، والسعي إلى الحكم الذاتي، والتطلّع إلى الحداثة، من مغامرة فخر الدين المعني الثاني، إلى سقوط السلطنة العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى. ومنذ توليه إمارة الشوف عام 1590 استطاع فخر الدين مد سلطته على بلاد تخطّت «لبنان الكبير» الحالي نحو الداخل الفلسطيني والداخل السوري، قبل أن تضع الآستانة حدّاً لطموحاته ويسلك طريق المنفى. ومن اللافت للغاية وصوله إلى توسكانا عام 1613، حيث مكث خمس سنوات، محاطاً بخريجي معهد روما الماروني، فكان هو المسؤول المشرقي (وعلى الأرجح الآسيوي) الأول، الذي يطّلع مباشرةً على إنجازات النهضة الأوروبية في بداياتها وفي قلب فلورنسا نفسها، التي بدأت بها تلك النهضة لتشمل أوروبا وتنقلها من القرون الوسطى إلى الحداثة. وقد وضع فخر الدين هذه التجربة المعرفية التي عاشها، في خدمة مشروعه العمراني بعد عودته إلى السلطة عام 1618، وقبل أن تضع السلطنة العثمانية كل ثقلها لتنهي إمارته بصورة مأساوية عام 1635.

في المراحل الزمنية اللاحقة، بدأت السلطنة انحدارها التدريجي، الذي تسارعت وتيرته في القرن التاسع عشر حين باتت تُعرَف بـ«رجل أوروبا المريض»، في موازاة صعود أوروبا الحداثة واتساع نفوذها شرق البحر المتوسط وفي سائر أنحاء العالم. لكن «الباب العالي» لم ينسَ الخصوصية اللبنانية ولم يتهاون معها. وحين تطور النزاع الدرزي - الماروني على جبل لبنان، راهنت السلطنة عليه لإنهاء المسألة اللبنانية. لكن الانتصار العسكري الذي نتج من مذابح جبل لبنان ودمشق عام 1860، سرعان ما تحوّل هزيمة سياسية عثمانية، بفعل تأثير المذابح على الرأي العام الأوروبي والتدخل العسكري الفرنسي في الشام وجبل لبنان. ما أدّى إلى قيام «متصرفية جبل لبنان»، الكيان اللبناني الأول المتمتّع بالحكم الذاتي داخل السلطنة العثمانية.

وظلت إسطنبول، حتى الرمق الأخير، تلاحق الخصوصية اللبنانية. ما أن دخلت الحرب العالمية الأولى عام 1915 إلى جانب ألمانيا والنمسا حتى علّقت نظام المتصرفية (بعد 54 عاماً من الحكم الذاتي الناجح)، وفرضت الأحكام العرفية والحصار الغذائي على جبل لبنان، فكانت «المجاعة الكبرى» حيث فقد الجبل ثلث سكانه خلال ثلاث سنوات، في إبادة جماعية هي الفاجعة الأشد هولاً في تاريخه. لكن انتصار الحلفاء على دول المحور في تلك الحرب أدى إلى زوال السلطنة العثمانية وقيام «لبنان الكبير» عام 1920.

نجت الفكرة اللبنانية من الحالة العثمانية ومن انهيارات التاريخ، لتواجه في حركة الصراع نفسه، نزعة الوحدة العربية، ونزعة الوحدة السورية، بأشكالهما وصيغهما المختلفة، على مدى 85 سنة، من عام 1920 إلى عام 2005. منذ قيام «لبنان الكبير»، كانت فئة واسعة من مواطنيه رافضة له، وتائقة إلى الانضواء في المملكة السورية تحت عرش الأمير فيصل بن الشريف حسين. ومع أن المملكة السورية لم تدم أكثر من أربعة أشهر ونصف الشهر، فقد استمر التوق إلى الاندماج في المحيط يفعل فعله في نفوس مريديه داخل الكيان اللبناني.

وحين تبلورت النزعة الوحدوية العربية مع البعثيين والقوميين العرب، ووصلت إلى أوجها مع الناصرية والوحدة المصرية - السورية، وجدت الخصوصية اللبنانية نفسها أمام مواجهة كبرى، زادها حدة الوجود الفلسطيني المسلّح فوق الأراضي اللبنانية ودعوته إلى تحرير فلسطين انطلاقاً منها. في هذه الأثناء برزت فجأة صيغة أنطون سعادة للأمة السورية، عبر محاولة الانقلاب العسكري الفاشلة على الرئيس فؤاد شهاب عام 1961. ومع انطلاق الحرب اللبنانية عام 1975، ودخول القوات السورية إلى لبنان، اشتدت الصيغة الأسدية للدعوة السورية (شعب واحد في دولتين)، لكن تسيطر فيها الأولى، الفعلية، كلياً على الثانية، الشكلية. وقد هيمن الوجود العسكري السوري شيئاً فشيئاً هيمنة كاملة على لبنان طوال 29 عاماً، بحيث أيقن نظام الأسد أنه ضمّ الكيان اللبناني ضمّاً فعلياً ونهائياً. لكن فجأة، مع استشهاد الرئيس رفيق الحريري وقيام «ثورة الأرز» عام 2005، انسحب الجيش السوري من الأراضي اللبنانية وانطوت صفحته.

هكذا، مثلما نجت الفكرة اللبنانية من الحالة العثمانية، نجت من الحالتين الوحدويتين، العربية والسورية، بحيث بات شعار الوحدويين السابقين هو شعار الكيانيين اللبنانيين نفسه: «لبنان أولاً».

هل تنجو الخصوصية اللبنانية، هذه المرة أيضاً، من ولاية الفقيه الإسلامية التي تواجهها؟ لقد استطاع «الثنائي الشيعي» بناء دولته الفعلية على حيّز كبير من المكان اللبناني، وفرض سيطرته على معظم ما بقي من دولة «لبنان الكبير» المنهارة.

لكن رغم ذلك كله، لم يقل التاريخ كلمته النهائية بعد. وفي جعبة الخصوصية اللبنانية تراث تراكمي ثمين من الإنجازات الحياتية والمعرفية، فريدة من نوعها في المشرق، هي كنزها، وتاريخ طويل من النجاة، وكلمة صغيرة هي سلاحها الأمضى في كل زمان: الحريّة.