على الأرجح، فإن فريدريك إنجلز، هو من لاحظ أنه كلما طالت المسافة الزمنية بين لحظة وقوع حدث ما، والكتابة عنه بغية تحليله من أبعاده المختلفة، كان التشخيص أدق. لم يكن إنجلز يقصد، بالضرورة، وقائع التاريخ البعيدة، وإنما تلك التي وقعت في العصر الذي يعيشه الباحث، أو المحلل. والقصد هنا، هو أن المسارعة إلى تشخيص حدث ما لحظة حدوثه، قبل دراسة مقدّماته، والأهم عدم الانتظار حتى تبين تداعياته، والنتائج المترتبة عليه، ما يتطلب وقتاً، نقول مثل هذه المسارعة إلى التشخيص عرضة أكثر للوقوع في سوء التقدير، إنْ لجهة المبالغة في حجم الحدث، أو العكس، أي التقليل من أهميته.

ففي حال المبالغة قد تكشف التطورات لاحقاً، أن الأمر أبسط، أو أقل أهمية مما صُوّر به، حكماً من ضآلة ما ترتب عليه من نتائج، أو حتى انعدامها، وقد تليه أحداث أكثر حسماً، أو أهمية منه، لا علاقة مباشرة لها به، وفي حال التقليل من أهمية الحدث المعني قد تفاجئنا التطورات التالية بأنه لم يحسب الحساب لما قد يترتب على ذلك الحدث، الذي بدا لحظتها، في أعين من حلّله، قليل الأهمية، ناسياً أن «معظم النار من مستصغر الشرر».

هنا نحن بصدد رؤية الحدث عن بُعد زمنياً، لكن للأمر جانباً آخر، هو رؤية الحدث، أو المكان، عن بُعد مكانياً، حتى لو كان هذا المكان هو الوطن نفسه، الذي قد يحدث أحياناً، ولا نقول دائماً، أن نراه من خارجه افضل مما نراه من داخله، ربما لأننا عن بُعد نرى المشهد في بانوراميته، أما عندما نكون داخله نصبح أسرى تفصيل بعينه من هذه البانوراما الواسعة.

هذا على الأقل ما توحي لنا به إجابة المفكر الفلسطيني – الأمريكي هشام شرابي، على سؤال بهذا الخصوص. كان شرابي قد أكمل خمسة وأربعين عاماً، وهو يعيش ويعمل كأستاذ جامعي في الولايات المتحدة، حين قال إنه طوال تلك المدّة لم يشعر يوماً، بأنه ترك مجتمعه وأصبح جزءاً من مجتمع آخر. وننقل هنا كلماته حرفياً: «أشعر نفسياً وعقلياً، وفي أعماق لا وعيي، وفي كل ما عملته، وكل انصبابي، العملي والأكاديمي، بأنني أستقي ذلك من هذه العلاقة بمجتمعي».

قال شرابي أيضاً ما يفيد بأن كل ما يحدث في المجتمع الذي أتى منه، فلسطين وبلاد الشام عامة، هو جزء من انهماكه الفكري، كباحث ومؤرخ وعالم اجتماع، وإلى هذا يعزو انعدام الهوة بين الفكر الأكاديمي المجرد والفعل الاجتماعي.

ممتناً لمساحة الحرية المتاحة له في التعبير حيث يقيم، قال: «ربما مكنني ذلك من رؤية الوطن بوضوح أكثر من بعيد».