اشتدت وتيرة المواجهات خلال الأسبوع الأخير على جبهة جنوب لبنان، وترافقت مع هجمات إسرائيلية غير مسبوقة بالطائرات على مواقع في حلب استهدفت قوات النظام السوري و"حزب الله"، في تصعيد يؤشر إلى احتمالات توسع العمليات في إطار الحرب المتغيّرة، يترافق مع انسداد الأفق للتوصل إلى تهدئة لا تزال مستبعدة من دون رعاية إقليمية ودولية تطلق التفاوض حول القرار 1701 وترسيم الحدود حتى لو جرى الاتفاق على هدنة في غزة هي أيضاً معلقة على الأجندة الإسرائيلية باجتياح رفح.

ينذر التصعيد الإسرائيلي باحتمالات توسع الحرب، خصوصاً مع الاستهدافات في العمق اللبناني وعمليات الاغتيال ضد "حزب الله" والحرب التدميرية للقرى المتاخمة للحدود، وهو ما يؤدي إلى مزيد من الاستنزاف مع إبقاء جبهة الجنوب مفتوحة وصولاً إلى تغيير المعادلة القائمة ومحاولة إبعاد قوات "حزب الله" إلى شمال الليطاني.

ما بات محسوماً أقله وفق التطورات التي تشهدها الجبهة الجنوبية المشتعلة منذ أكثر من ستة أشهر بعد عملية "طوفان الأقصى" أن لا عودة إلى ما قبل 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023. وهي وفق ما تريده إسرائيل إرساء معادلة جديدة بتفريغ القرى الحدودية وتدميرها وجعلها غير قابلة للحياة ما بقيت مستوطناتها الشمالية غير آمنة. هذه الوجهة بدأت تتضح من خلال تغيّر وتيرة المواجهات وانسداد أفق التفاوض لتنفيذ القرار 1701، فيما يستمر "حزب الله" بتنفيذ عمليات يومية تحت عنوان مساندة غزة، من دون استخدام أسلحة جديدة أو استهداف مناطق حساسة، باستثناء بعض العمليات بالطائرات المسيّرة والصواريخ الموجهة، لكنها ما زالت محصورة بنقاط معينة.

تدور المواجهات على جبهة الجنوب وتمتد إلى سوريا وسط تراجع المبادرات الدولية للتوصل إلى التهدئة، فيما التحذيرات من حرب مدمرة متواصلة وآخرها من رئيسة وزراء إيطاليا جورجيا ميلوني التي زارت لبنان وتفقدت الكتيبة الإيطالية المشاركة في قوات اليونيفيل، في وقت ترنحت فيه وساطة المبعوث الأميركي آموس هوكشتاين مع تركيز إدارته على مفاوضات الهدنة في غزة واقتناعها بأن لا إمكانية لفصلها عن جبهة الجنوب التي تحتاج إلى ترتيبات أمنية تجنباً لتوسع الحرب وتحولها إلى مواجهات إقليمية. وهذا الوضع المتوتر يدفع المنطقة كلها إلى الانزلاق نحو الفوضى، رغم ما يحكى عن محادثات جانبية ومفاوضات غير معلنة بين الولايات والمتحدة وإيران على أكثر من خط لتسوية الملفات العالقة التي باتت مرتبطة ارتباطاً رئيسياً بحرب غزة.

توقف البحث في خريطة الطريق لتطبيق القرار 1701 والتوصل إلى حل دبلوماسي للحدود بين لبنان وإسرائيل، وبات الميدان أقله حالياً هو المقرر لمسار الجبهة الجنوبية. وهذا الوضع يذكر بمراحل سابقة، لا سيما مرحلة ما قبل عام 1978، حين كان الجنوب مسرحاً للمواجهات بين الفصائل الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي، لكنه يأخذ اليوم أبعاداً أخرى بعد التطورات التي حدثت منذ العام ألفين تاريخ الانسحاب الإسرائيلي من الجنوب، وما تلاه من مواجهات كان أبرزها حرب تموز 2006 وإصدار القرار 1701.

لطالما سعت إسرائيل إلى إنشاء منطقة عازلة في الجنوب اللبناني، وهي تعتبر أن القرار 1701 ينص وفق وجهة نظرها على ذلك، وهي طرحت خلال السنوات السابقة حتى مع انطلاق المفاوضات غير المباشرة بوساطة أميركية حول ترسيم الحدود البحرية أن يشمل التفاوض ترسيماً للحدود البرية يبعد "حزب الله" عن الحدود. لكن جبهة الجنوب بقيت هادئة نسبياً رغم المناوشات التي كانت تحدث بين الحين والآخر، فحوّلت إسرائيل ضرباتها إلى العمق السوري واستهدفت خلال سنوات مواقع إيرانية ونفذت عمليات اغتيال ضد مسؤولين إيرانيين وكوادر من "حزب الله"، ورغم ذلك لم تهتز جبهة الجنوب اللبناني، أو تتحول إلى منطقة عمليات رداً على الهجمات الإسرائيلية في سوريا.

اليوم تغيّرت المعادلات مع استمرار اشتعال جبهة الجنوب، حين قرر "حزب الله" الدخول في معركة مساندة غزة، وعادت الأمور إلى النقطة الأصل، أي المطلب الإسرائيلي بانسحاب قوات الحزب إلى شمال الليطاني، أي إلى منطقة تجعل الحدود اللبنانية - الإسرائيلية آمنة بالنسبة للمستوطنات الشمالية. لكن هدف المنطقة الأمنية العازلة سقط مع رفض "حزب الله" له، انطلاقاً من أن تلك المنطقة هي ساحته، ومع ارتفاع الشروط الإسرائيلية، توقفت وساطة هوكشتاين، ومعها كل المبادرات الدولية، لتتغيّر طبيعة المعركة وتحوّلها إسرائيل إلى حرب استنزاف للبنان عبر عمليات التدمير الممنهج للقرى الجنوبية تصل إلى مسافة 7 كيلومترات من الحدود، وتوسع عمليات اغتيال كوادر ومقاتلين من الحزب في العمق الجنوبي واللبناني، وتضغط أكثر لفرض معادلة جديدة بالقوة تبعد "حزب الله" عن الحدود.

التطورات الحالية على جبهة الجنوب، تشير إلى أن لا إمكان للعودة إلى المعادلة التي كانت قائمة بين "حزب الله" وإسرائيل ما قبل 8 تشرين الأول (أكتوبر) 2023، حتى لو كان الحزب يؤكد أنه مستعد لوقف النار إذا سرت الهدنة في غزة ويعتبر أن مواجهاته الحالية في الجنوب هي كافية وتحقق هدفها. والعودة إلى تلك المعادلة دونها عقبات إسرائيلية، إذ إن حكومة بنيامين نتنياهو مصرة على تغييرها وهي تستمر بإطلاق تهديداتها بشن حرب على لبنان.

حتى الآن تتقدم طبول الحرب على وساطات التهدئة والتوصل إلى تسوية سياسية للوضع في الجنوب اللبناني، وإن كانت إسرائيل تسعى من خلال حرب أو تفاوض لانتزاع تنازلات من "حزب الله" تبعده عن الحدود للقول بأنها حققت انتصاراً ووفرت الأمن للمستوطنين. ويبدو أن احتمال الهجوم البري لا يزال قائماً وفق ما تنقله تقارير إسرائيلية عن مسؤولين، لكنه لن يكون شاملاً ويستهدف منطقة تمتد إلى 10 كيلومترات. لكن الأكثر ترجيحاً هو توسيع العمليات ضد "حزب الله" بالضربات والاغتيالات والتدمير وإبقاء الجبهة مشتعلة وتحويل لبنان ساحة مفتوحة.

في كل الاحتمالات المطروحة يواجه لبنان حرب استنزاف مديدة نتائجها قد تكون كارثية. والسؤال لبنانياً موجه إلى "حزب الله" عن إدارة المعركة وسط انقسامات لبنانية تزداد يوماً بعد يوم، وارتفاع الخطر من الانزلاق إلى مزيد من العمليات وإبقاء لبنان في حالة استنزاف وفوضى. وعلى الرغم من تأكيد الحزب أنه لا يريد حرباً مفتوحة شاملة، إلا أن المعادلة القائمة تبقي البلد أسيراً لوحدة الساحات وحساباتها الإقليمية.

Twitter: @ihaidar62