تسعى طهران المثخنة بجراح الضربة الإسرائيلية الأخيرة على قنصليتها في دمشق إلى تحقيق هدفين فوريين: الأول أن ترد على مجزرة المزّة بـ"صفعة" لإسرائيل تلحق بها وجعاً معنوياً كافياً ليعتبر رداً لاعتبار طهران ولقوة ردعها، على ألا يكون فاتحة انزلاق نحو حرب مباشرة مع تل أبيب لا تريدها لا طهران ولا واشنطن، وفي الوقت عينه ألا تشكل خطراً وجودياً على الأذرع الأهم وفي مقدمتها "حزب الله". والهدف الثاني تسريع وتيرة تحريض الشارع في عدد من الدول العربية كالأردن ومصر ودول المغرب العربي بواسطة نداءات قادة حركتي "حماس" و"الجهاد الإسلامي"، من جهة، والخلايا النائمة، من جهة أخرى.

فالردّ على إسرائيل يمثل إشكالية كبيرة للنظام في إيران، والسبب أن الرد يجب أن يكون مباشراً لأن صدقية إيران باتت على المحك حتى داخل أوساط مؤيديها، بعدما علت أصوات تعتبر أن طهران تقاتل باللحم والدم العربيين وتبقى هي جالسة على مقاعد المتفرجين. هذه المرة كسرت إسرائيل كل القواعد وتسببت بإحداث زلزال داخل مؤسسة "الحرس الثوري" بتصفيتها قيادة "فيلق القدس" في عقر دار ممثليتها الدبلوماسية في دمشق. وأظهرت هذه الضربة أن إيران باتت الطريدة الأساسية في سوريا ولبنان.

إذاً، الرد يجب أن يكون مباشراً. يمكن في هذه اللحظة التي ننتظر فيها التطورات الدراماتيكية أن يكون الرد ثمرة تفاوض ليأتي مسرحياً مثل الرد على اغتيال الجنرال قاسم سليماني في مطلع عام 2020 وكشف عنه أخيراً الرئيس السابق دونالد ترامب، أي بضعة صواريخ من هنا أو هناك ثم يعود كل شيء إلى مساره الطبيعي. لكن بخلاف اتفاق، فإن أي رد مباشر دون مستوى مجزرة المزّة سيبقى فعلاً ناقصاً. كما أن أي رد كتوجيه صواريخ بالستية دقيقة نحو تل أبيب أو قاعدة عسكرية كبيرة واستراتيجية سيفتح الباب أمام المستوى العسكري الإسرائيلي لتوجيه رد على الرد في قلب طهران وغيرها على مواقع إما عسكرية استراتيجية، أو ذات رمزية معنوية للنظام مثل مدينة قم أو منشآت نووية على سبيل المثال.

الإشكالية التي تواجه الإيرانيين تعود إلى أن الرد عبر الفصائل في العراق سيكون رداً مسرحياً. أما الرد من لبنان بيد "حزب الله" فسيعرض أهم استثمار لـ"الحرس الثوري" الإيراني منذ ثورة الإمام الخميني إلى خطر كبير، لأنه قد يمنح إسرائيل الذريعة لشن حرب واسعة وعنيفة ضد الحزب المذكور. وللتذكير فإن وظيفة "حزب الله" الاستراتيجية مرتبطة بحماية النظام في طهران، مرة من خلال منع سقوط الجسر السوري، ومرة أخرى من خلال تشكيل درع لحماية البرنامج النووي الإيراني العسكري، لا خوض حرب مع إسرائيل تحت عنوان مساندة غزة أو ما شابه.

في مطلق الأحوال، من الواضح أن "يوم القدس" الذي تنظمه طهران سيكون هذا العام مناسبة لجملة من الخطوات الإيرانية في محاولة لخلط الأوراق، بدءاً من الساحة الأردنية التي تشهد مزيداً من التحريض ضد النظام تحت شعار التضامن مع غزة وحركة "حماس"، ووصولاً إلى ساحات أخرى من مصر إلى تونس والمغرب. ويبدو أن الخلايا النائمة في هذه الساحات تلقت إشارات بالتحرك تحت شعار مساندة غزة.

إن التهديد الإيراني بالرد يقلق إسرائيل ويربكها. لكن في العمق فإن الرد على الرد هو ما يقلق إيران أكثر.