أسمع كثيراً هذه المقولة من أشخاص متعددين؛ وهي أن الموظفين ليسوا أهلاً للمسؤولية أو أنهم مستهترون ولا يأخذون العمل بجدية. وهؤلاء المستهترون هم الأصعب دائماً في التخلص منهم.

فكرت كثيراً في الموضوع لأفهم كيف يتعلم شخص ما الاستهتار. هل الاستهتار يأتي من الموظف أم يأتي من النظام؟

الاستهتار مثل الانضباط مسألة ثقافية، ولهذا لا يولد الإنسان مستهتراً ولا يولد منضبطاً، بل يتعلم كل هذا من خلال التعليم والبيئة المحيطة له.

لكن لنعلم أن الأصل في الإنسان هو الاستهتار، ثم تأتي القيم والقوانين والتعليم لتهذبه وتعلمه الانضباط.

وبالتالي أستطيع القول بكل ضمير مرتاح، إن المسألة نتيجة الثقافة العامة أو الخاصة، لكنها لا تعفي الشخص من المسؤولية. وقلائل هم من يعملون بانضباط حتى والفوضى حولهم في كل مكان، لأن هؤلاء هم القادة، ولسنا كلنا نولد لنكون قادة.

ما الجديد إذن في كلامي؟ وما أهميته؟! أهمية كلامي هي أن نظام الشركة والمدرسة والجامعة والبيت الذي نعيش فيه هو من يصنع جيلاً من الموظفين المستهترين، وليس من السهل تغيير الواقع دون تغيير النظام.

لقد تعودنا أن نلوم الجامعات والمدارس على كل شيء، وهي فعلاً تتحمل نتيجة هذا الوضع، لأن الهدف من التعليم هو زرع القيم وتعليم الإنسان طريقة التفكير الصحيحة، وهذا هو لب النظام التعليمي. ولكن لن أعفي الشركات من المسؤولية الكبرى ولا نظام العمل.

عندما يعمل الإنسان في شركة أو جهة غير ربحية أو لا يوجد حساب على تكاليفها ومداخيلها، هنا يفقد الموظف الدافع ويكون من الصعب محاسبة الشخص لمعرفة نجاحه من فشله.

وهذه مصيبة كبرى، لأن في البيئات التي لا تهم الربحية فيها أحداً تصبح الطريقة الوحيدة لتقييم العمل وأداء الموظفين هي علاقاتهم بالمديرين، وهنا يبدأ الكل في الاستهتار في العمل، لأن الأداء والتقييم مرتبطان بالعلاقة لا بجودة العمل.

حتى الترقيات في هذه البيئات تقوم على العلاقات. ولأعطيكم مثالاً، قبل أيام شاهدت أحد الموظفين في هيئة غير ربحية ترقى لمنصب نائب الرئيس، ومن خلال متابعتي لسير العمل في الهيئة لم يقدم هذا الشخص في الأعوام الستة التي راقبته بها، وراقبت عمل الهيئة بها ما يشفع له للحصول على أي ترقية.

أكاد أجزم أن الترقية هي نتيجة الأقدمية لأنه جرت العادة أن نرقي الأشخاص بتسميات حتى عندما لا توجد إنجازات تستوجب الترقية، وهذا من باب الحفاظ، وإن لم تكن الأقدمية السبب، فلا بد أن يكون رضا الرئيس التنفيذي للهيئة عن الموظف لا غير، أو من باب الحرص للإبقاء عليه بعد كل هذه السنوات.

شاهدت بأم عيني شخصاً في السابق ترقى لوظيفة إدارية وهو ليس ملماً بالإدارة، وفي الحقيقة لا يطيقها، بل يحب أن يعمل بيده منفرداً. فسألته: إذا لم تكن راضياً بأن تكون مديراً، فلم قبلت بالترقية؟ فقال لي رحمه الله: «في مجالنا وفي شركتنا، لا توجد طريقة لزيادة راتبي سوى بمنصب إداري، وأنا في حاجة لهذا المرتب».

عندما يرى موظف صغير هذا النظام أمامه، سيستهتر في العمل، لأن بإمكانه التأجيل وبإمكانه العمل ببطء شديد، ولمَ العجلة، إذ لا توجد فائدة ربحية للمكان ولا أحد بإمكانه فصلي.

ما يصدم أن كثيراً من الشركات هي شركات بالاسم، ولكنها أبعد ما تكون عن الربحية والملاك، لا يمانعون من رؤية الشركة تغرق، لأن الإدارة العليا تربطها بهم أواصر محبة، وليس أواصر ربحية.

ولذا عندما تقول لشخص مستهتر في هذه البيئة إن عليه العمل، فسيقول لك: «لو سمحت أنا أعلم بعملي ولا أحتاج النصيحة منك». لأنه لو الشركة كانت ربحية وخسرنا الأموال، لأصبح هو وعائلته بلا دخل ولتم طرده.

ماذا عن الجهات الحكومية التي هي في الأصل غير ربحية؟ غير ربحية لا يعني أن عليها مصاريف يجب أن تتوازى مع إنتاجيتها، ولهذا في الولايات المتحدة نرى أن جهات حكومية كثيرة لا تعطي أي زيادات للموظفين، لأن سلطات الولاية راجعت أداءها، ووجدت أن الأموال أجدى أن تذهب على أمور أخرى تهم الولاية نظراً لمحدودية الموارد.

وهنا أنصح الجميع بمشاهدة مسلسل مثل. «The wire» يحكي بوضوح كيف تفشل المؤسسات الحكومية الأميركية في القيام بدورها بسبب نقص الموارد، ولهذا يسعى الكل هناك لتبرير الإنفاق للحصول على موارد أكبر.

في النهاية، أي جهة لا يوجد لديها قياس للأداء وبخاصة الربحية، لا يمكن التوقع أن موظفيها سيكونون منضبطين، ما لم تكن الدوافع شخصية كوجود رئيس تنفيذي أو مسؤول حكومي قائد ويزرع في الجميع ثقافة الانضباط، وهؤلاء هم أكثر من يحارب وترفع فيهم الشكاوى للأسف.