"كان الوالد يتكلم دائماً عن الصدق والأمانة، ويستشهد بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين)". بهذا اختتم الحاج عبد الواسع هائل سعيد أنعم عضو البرلمان اليمني حديثه الشيق عن والده الراحل الحاج هائل سعيد أنعم الله عليه بالرضوان والنعيم، مؤسس أكبر وأهم مجموعة اقتصادية يمنية.

أثناء لقاء نظّمته الجالية اليمنية في تركيا منذ ثلاث سنين (أيلول- سبتمبر 2021)، ارتحل الحاج عبد الواسع بالمستمعين والحضور إلى محطات نشوء مجموعة شركات هائل سعيد أنعم وشركاه، منذ نزل والده الحاج هائل سعيد أنعم وإخوته محمد وعبده سعيد من على رأس قمة جبلية يبلغ ارتفاعها 2005 متر، كي يمدّوا خيرهم على امتداد سواحل اليمن ومدنه وقراه شمالاً وجنوباً. بعد هجرة محدودة إلى القطر الفرنسي... وتجاوز عطاؤهم القطر اليماني السعيد إلى القطر البريطاني البعيد، حيث تأسست "أمانة معاذ الخيرية" في مدينة برمنغهام بفضل الحاج هائل سعيد أنعم قبيل شهور من وفاته عن 88 سنة (نيسان- أبريل 1990 – 27 رمضان 1410هـ). اكتسبت هذه "الأمانة" ثقة بلدية المدينة وحازت دعماً سخياً جزاء أثر مباشر على سلوك بعض الشباب وهدايتهم.

ذكرى التاجر الصدوق الأمين الحاج هائل سعيد أنعم، تحيي ذكر مواقفه النبيلة والخيّرة النابعة من يقينه الراسخ بالله وما يهب عباده الصالحين من رزق ينفقونه بظهر الغيب، فينعم عليهم بالرضوان ويضاعف عطاياهم.

بماذا تزود الحاج هائل في رحلته العظيمة تلك. يحكي لنجله عبد الواسع أنّ دعاء الوالدين هو ما سخر كثيراً من الأمور، وخفف مشاق العمل ومتاعب السفر. وكثيراً ما كرّر لأبنائه ممن حاولوا تكليف أنفسهم فوق طاقتها أنّه غادر القرية إلى عدن وهو لا يملك أجرة الحمار، وأنّ الله كما رزقه في عدن، سيرزقه في تعز وغيرها.

عززت ثقته بالله تجارب مختلطة مع بلايا ومحن زادته إيماناً ويقيناً واعتقاداً بربه الرازق الكريم. يذكر الحاج عبد الواسع أنّ والده تعرّض يوماً لسرقة صندوق أمانات من متجره الكائن في المعلا، حيث كُتِب له الرزق الخير بعيداً من سوق كريتر عدن. تبلّغ بهذا الحادث أثناء جلوسه في حلقة درس بالجامع بعد صلاة المغرب، لم يهتز للموقف بل واصل الاستماع للدرس ولزم الجامع حتى فرغ من أداء فرض صلاة العشاء، ثم توجّه إلى نقطة الشرطة التي كانت تسمّى "الشوكي" ليقدّم بلاغاً بالحادث، فخرج معه جنديان لمعاينة الموقع، وإذا بهم يلمحون صندوقاً ملقياً في وسط الطريق، لكأنّ اللص تعب من الصندوق المثقل بالأمانات فألقاه وسط الطريق. بذا جنب الله الحاج هائل الحرج أمام أصحاب الأمانات.

بالرغم من خسارته الفادحة بسبب حادث عرضي، التزم صادقاً لبعض صحبه أن يعوضهم عن خسائر بضاعتهم التي تمّ إغراقها في البحر مع بضاعته المشحونة من عدن إلى الحديدة، بسبب ضربات جوية بريطانية في البحر أثناء الحرب العالمية الثانية، لم يقتنعوا بالتزامه واستعوضوا الله خيراً. علم الحاج هائل بصدور إعلان من القوات الجوية البريطانية عن تعرّض قارب شحن أو "سنبوق" كما كان يسمّى، لضربات خاطئة؛ توجّه الحاج هائل ليدلي بأقواله، وبعد التثبت مما قدّم من قائمة ببضائعه وبضائع صحبه التجار، أرسلوا إليه شيكاً بقيمة البضائع مضاف عليها ربحاً بنسبة 15 في المئة كتعويض، فذهب هائل يسلّم أصحابه حصتهم من الشيك البريطاني.

نتيجة التزامه رحمه الله بعهوده تجاه صحبه من التجار والشركاء، وكذا احترام عقوده مع مصادر تجارته من شركات أخرى، صار محل ثقة الجميع ممن ائتمنوه على بضائعهم، وبادروا بمضاعفة كميات السلع التجارية التي يبيعها في دكانه الأول بالمعلا ممن تفرسوا الخير في وجهه، وقال له أحد الهنود العاملين في شركة البس: "أنت صورة تمام...". وتعزيزاً لصورته "التمام" تلك اعتنى بتصريف الكمية كاملة وسلم شركة "البس" قيمة البضائع مع الأرباح، ما جعله محل ثقتهم أكثر، وواصلوا التعامل معه مخصّصين له نسبة معقولة من الأرباح التي باركها الله له.

وهو يتحدث باعتزاز عن بدايات والده هائل سعيد في عدن والصومال، لم يغفل الحاج عبد الواسع هائل سعيد التنويه بجهود ابن عمه الشيخ علي محمد سعيد ذي التجربة الثرية في الحياة وخريج جامعتها الكبرى، من كان الذراع اليمنى لعمه هائل، والدينمو المحرك لنشاط المجموعة من أولى مراحلها. فشكّل الابن وعمه معاً ثنائية "البركة والحركة". ومعهما المجتهد أحمد هائل سعيد بما اكتسب من علوم وقدرات عملية وإنسانية مميزة. حتى أنّه بقي يلازم والده هائل في عدن إلى أن اضطرا للمغادرة في ليل معتم عقب إخطار أحمد من أحد الأصدقاء بأنّهم مع بقية التجار عرضة للاعتقال، توطيداً لسياسة التأميم التي انتهجتها حكومة الجبهة القومية بعد الاستقلال.

ولأنّ خطوات استثمارية تجارية وعقارية مبكرة أوائل الخمسينات من القرن الماضي بدأها علي محمد سعيد في شمال الوطن بتعز والمخا وصنعاء والحديدة (أدار عبد الواسع فرع الحديدة من سنة 1965 بعد تخرجه في بريطانيا وانتقاله من عدن) فقد وصل هائل وولده أحمد مع أسرتهم مستقرهم الجديد في تعز مطمئنين إلى إمكان استئناف نشاطهم وتوسعته في محيط أكثر أمناً واستقراراً من عدن.

مثلما اعتبر دكان المعلا نواة الارتقاء إلى العلا في مجال الاقتصاد والتجارة الوطنية، اعتُبرت تعز منطلق ريادة الصناعة الوطنية، بتأسيس الشركة الوطنية للصناعة والتجارة والتي كانوا، بحسب الحاج عبدالواسع، قد شرعوا التفكير فيها قبيل تنفيذ التأميم الذي جاء يحبط كثيراً من الأحلام والآمال الاقتصادية في عدن. أمكنهم من تعز أن يساهموا ومعهم مساهمون كثر من مختلف المستويات، في تنمية الاقتصاد الوطني وما زالوا يعملون على نحو مؤسسي منظّم... إلى ما شاء الله.

جرياً على عهد الصدق والأمانة من قديم عهد الحاج هائل، تجاه صحبه وشركائه ومن يتعامل معهم، فقد أخطر الشركات الأسترالية والبريطانية والفرنسية التي يتعامل معها بما جرى لهم في عدن، وأنّه يلتزم بسداد ما عليهم من التزامات لتلك الشركات الدولية تجاوزت المليون جنيه إسترليني، برغم تلك "الظروف القهرية" التي أعفت تجاراً غيرهم من سداد التزاماتهم، وفقًا للحاج عبد الواسع، لكن أباه الحاج هائل وشركاه أوفوا بالعهد وسددوا ما عليهم من التزامات تعززت معها ثقة تلك الشركات فضاعفوا كمياتهم التجارية على النحو ذاته الذي انتهجته شركة "البس" قبل عشرين سنة.

في مختلف المراحل، سواء في عدن أم تعز أم صنعاء أو خارج القطر اليماني، كان الحاج هائل سعيد يستحث أبناءه على صرف الزكاة المخصّصة خلال شهر شعبان. وبعد إخطاره بالمبلغ المخصص يقرر مضاعفته. كل من يراجعه حول قراره ينتهي راضخاً لمنطقه النبوي "ما نقص مال من صدقة". سَنّ في أهله وشركاه وخلفائه من بعده سنّةً طيبة بها يتضاعف رزق المحبة والتقدير والدعوات والترحم على كل من اتقى وجاد عن طيب خاطر "لا يتبعون ما أنفقوا مناً ولا أذى". ولأنّه من "الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (3) البقرة" استحق أن يكون "التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين"... رحمه الله وجدد ذكراه.

@LutfiNoaman