يرث الأبناء من والديهم، ليس فقط بعض ملامح وجوههم وبنية أجسادهم، وإنما أيضاً بعض طباعهم وتكوينهم النفسي، وأيضاً اهتماماتهم ومواهبهم وتخصصاتهم المهنية. هذا لا يعني أن الأولاد نسخ من الآباء والأمهات، فليس ضرورياً أن تكون شخصياتهم وميولهم واهتماماتهم هي نفسها التي لدى الوالدين أو لأحدهما، أباً كان أم أماً، خاصة أنّ كل جيل ينشأ في ظرف زمني، وربما مكاني أيضاً، مختلف عن ذاك الذي نشأ وكبر فيه أسلافه، آباءً كانوا أم أجداداً، وكل زمن يترك تأثيره في بناء وتكوين الشخصية وطبيعة اهتماماتها، وحتى المهارات التي يفرضها نمط المعيش الخاص بكل جيل.

هذا من حيث المبدأ، أما إذا ولجنا في التفاصيل فسنواجه باختبارات حول أيّ من الوالدين يرث الابن، أو البنت، الملامح والصفات والميول والاهتمامات، فما أكثر ما نقول عن أحدهم إنه يشبه والده تماماً، أو إن صفاته تشبه أمه تماماً، وهنا أيضاً لا قاعدة واحدة يمكن اعتبارها معياراً للقياس، فما أكثر ما يجمع الأولاد والبنات، في نسيج جديد، بين جينات الأبوين وملامحهما واهتماماتهما ومهاراتهما، وبالطبع، فإن لطبيعة التربية التي يتلقاها الوليد في محيطه الأسري أثرها الكبير في تشكيل شخصيته تحت تأثير والديه.

مثالاً على ما قلناه أعلاه، نجده في تجربة عالم الاجتماع المصري المعروف أحمد أبو زيد التي حكى عنها في مقابلة أجراها معه الكاتب أسامة الرحيمي وتضمنها كتابه «بوح المبدعين».

ولد أبو زيد ونشأ في مدينة الإسكندرية، يوم كانت المدينة ذات طابع كوزموبولتي بسبب الجاليات المختلفة التي كانت تعيش فيها من يونانيين وإيطاليين وفرنسيين وإنجليز وسواهم، وكان جدّ أبو زيد لوالدته ذات الأصل التركي أزهرياً يُدرّس أصول الفقه في المعهد الأزهري بالإسكندرية، وإلى جانب كتب الفقه، وجد الحفيد، أحمد أبو زيد، في مكتبة جده كتباً كلاسيكية بينها كتاب «الأغاني»، وغزليات عمر بن أبي ربيعة، و«الحيوان» للجاحظ، والأجزاء الكاملة من «ألف ليلة وليلة»، وإضافة إلى ذلك وجد الحفيد أسطوانات من الغناء المصري القديم والتواشيح، حيث كان شيوخ الدين في تلك المرحلة يحبّون هذا النوع من الموسيقى ذات الطابع الروحي.

بالمقابل، كان جدّ أبو زيد لأبيه تاجر فحم يستورده من الخارج، لبيعه للسكة الحديدية التي كانت تعمل بالفحم آنذاك، ومن الجد ورث والد أبو زيد المهنة نفسها، وظلّ الحفيد، أحمد، يذكر الصراع يومها مع مستوردي الفحم من التجار اليهود، ليدرك مبكراً «أنّ الصراع على المال لا يقلّ حدّة عن الصراع على السلطة».

شيء في الجينات، يقول أبو زيد، جعله يميل إلى جانب أمه، ابنة الأزهري، فقرأ الأدب والشعر وعشق الموسيقى، ليصبح، لاحقاً، ما أصبحه.