مع دخول حرب التوحش الصهيوني على غزة شهرها السابع، فإن مشهد المنطقة العام مخيف فلسطينياً، وكذلك لبنانياً ومقلق إيرانياً. مشهد لن يطرأ تبدل نوعي عليه، أياً كان حجم الرد الإيراني، والتوعد بمعاقبة إسرائيل وجعلها تندم على استهدافها للقنصلية الإيرانية في دمشق، وهو ما حدث قبل 10 أيام، وأسفر عن تصفية قادة غرفة عمليات «فيلق القدس» في المنطقة.

طبيعي أن يتعاظم قرع طبول الحرب وضجيجها، فتنقل وكالة «إيرنا» أن «الأمة تطالب بالانتقام»، وتكرر خطاباً خشبياً عن فشل «نتنياهو بتحقيق أهدافه: تحرير الأسرى، وقتل يحيى السنوار ومحمد الضيف وتدمير الأنفاق»، في تجاهل متعمد للثمن الفلسطيني الكبير؛ حجم الإبادة البشرية والاقتلاع القسري والدمار حيث لم تعد أجزاء واسعة من غزة المدمرة والملوثة صالحة للعيش. فالضربة الإسرائيلية طالت الرأس، ووضعت على المحك صدقية شعارات نظام الملالي، وطاول الاهتزاز صورة المشروع الإقليمي لإيران، مع انتكاسة مفعول مرحلة القيادة من الخلف للأذرع الميليشيوية في لبنان وسوريا والعراق، التي استثمرت فيها طهران، وصيّرتها دروعاً بشرية واقية لمشروعها الإمبراطوري.

إنها المرة الأولى التي تجد الجمهورية الإسلامية نفسها أمام أبوابٍ موصدة ومخارج ضيقة. ضربة القنصلية حدث عصيٌ على الاحتواء، أنهى التلطي خلف الميليشيات، وأسقط أشكال الحرب بالوكالة التي برع بها نظام الملالي ومكنته لعقود من حصد مكاسب مجانية. وفي المحصلة، وضعت إيران الخامنئي في مواجهة مباشرة مع إسرائيل، متعذر الهروب منها تذرعاً بـ«الصبر الاستراتيجي». لكل ذلك، خلف ضجيج الوعيد بالرد العسكري، وهو سيحصل لحفظ ماء الوجه، لكن من دون مبالغة، ليكون على الأرجح شيء من الرد على مقتل قاسم سليماني. رداً شبيهاً رقم 2 ليصبح معه مقتل محمد رضا زاهدي ورفاقه شيئاً من الماضي!

لقد انتهت لعبة حرب الظلال التي أدارتها طهران طيلة 3 عقود، ما دفعها لقتال آخر، سياسي، لاستبعاد الحرب الشاملة. ولا ينفصل هذا الهدف عن أبعاد استعراض ترسانتها الصاروخية، وإعلانها أنها تطول تل أبيب وإيلات والنقب وأبعد منها. فالهاجس هو الاحتواء الداخلي، لأن من يمسك القرار في طهران غير مخدوع بتواضع قدرات بلاده العسكرية وتردي أوضاعها الاقتصادية. هنا يبدو قرار بدء حرب واسعة في الإقليم، تدفع إليه العدوانية الإسرائيلية، ممسوكٌ من طرفين؛ إيران والولايات المتحدة.

إيران الطرف الأول تبذل كل شيء لتجنب الحرب الشاملة، من جهة انطلاقاً من معرفتها لقدراتها ومتطلبات حماية مشروعها النووي، ومن الجهة الأخرى حرصاً على أذرعها العسكرية واستثماراتها فيها، التي مكنتها من التبجح بإعلان السيطرة على 4 عواصم عربية. واليوم جرائم الإبادة الصهيونية كشفت هزال خطاب طهران، كما «حزب الله»، عن انتظار سقطة إسرائيلية لإنهاء إسرائيل. ذلك يدفع إيران للتمسك أكثر بالحدود التي تخدم مصالحها، ما يضمن حجم نفوذها وهيمنتها، فتدير الظهر للدعوة المكررة التي أطلقها محمد الضيف عندما حثّ مؤخراً «أبناء الوطن العربي والإسلامي إلى الزحف لحماية المسجد الأقصى وتحرير فلسطين»!

أما الطرف الثاني، أميركا، فأمام البيت الأبيض لوحة أولويات، تبدأ بمتطلبات الانتخابات الرئاسية الأميركية، والحرب الروسية على أوكرانيا، إلى تايوان ومتطلبات الصراع المتعدد الأوجه مع الصين، وغيرها. وفي الحرب على غزة منحت التغطية لعملية عسكرية جراحية في رفح، تقوض أكثر فأكثر قدرات «حماس» وتحد من سقوط المدنيين، أما شمالاً فما زالت ترى إمكانية فرض «تفاهمات» تضمن أمن المستوطنات والمستوطنين، واستقرار شمال الخط الأزرق، ومنع أي احتمال بـ«7 أكتوبر» من جنوب لبنان!

إنه وضع دقيق، تعرف تل أبيب كل أبعاده، ويفهمه جيداً نتنياهو، الذي يدرك أن الدعم الأميركي اللامحدود هو المفتاح للمضي بعيداً في حربه توسلاً لانتصار نوعي يمنع محاسبته. ولأن الحرب الشاملة ممنوعة أميركياً، وحّدت إسرائيل بالنار ساحتي لبنان وسوريا، واتسعت استهدافاتها للقيادات العسكرية وخطوط الإمداد، مكرسة واقعاً غير مسبوق من الاختراقات الأمنية والاستخباراتية. وتعدُّ عملية القنصلية الإيرانية هدفاً وتوقيتاً، عملية مفصلية، وصفتها صحيفة «معاريف» بأنها «جزء من ترسيخ الردع الإسرائيلي الذي تضرر في (7 أكتوبر)، ومن المفترض أن يشكل تحذيراً لبيروت» (...)، لتعلن رسائل الميدان، بعد انحسار القتال في غزة، عن تغيير نوعي في المعادلة، مع إمساك إسرائيل بالمبادرة!

بهذا السياق، مقلقة مواقف «حزب الله»، وتبسيطه للوضع الذي يعيشه لبنان، المنكوب بانهيارات مالية واقتصادية واجتماعية، فيروج مقولات عن «المد الهادر لمقاومة الشعوب»، وجنوب الليطاني فرغ من أهله. ويفاقم المخاوف ذهاب حسن نصر الله إلى إعلان الترحيب بالحرب، وتعميم قراءات عن «إنجازات» المعركة التي «سيعود نفعها على كل لبنان»، إلى الحديث عن «أسلحة بعد ما استخدمناها» فيما طال الدمار ألوف البيوت وانعدمت سبل العيش (...). وفي الوقت عينه، يضيق ذرعاً بدعوات رافضة جرّ لبنان للحرب، هي لسان حال أكثرية اللبنانيين، فيصب غضبه على من أسماهم «التافهين»، لأنهم لا يرون رأيه، ويطالبون بالتزام واضحٍ صريح بالقرار الدولي 1701 الذي أوقف حرب عام 2006 وفرض انسحاباً إسرائيلياً كاملاً. هنا يبدو لبنان، الكيان والناس، في قلب تداعيات حربٍ مفروضة. التهجير القسري قياسي، وفرض إسرائيل بالنار منطقة عازلة محروقة على امتداد الحدود مع فلسطين المحتلة. ونتيجة هذه «الميني حرب»، امتدت حدود المواجهة إلى جرود، السلسلة الشرقية من تلال النبي شيت، وجنتا، إلى محيط بعلبك والهرمل!

فرض الميدان تحولات نوعية، فتفاقمت المخاطر مع اكتفاء بقايا السلطة بإعلان الجنوب منطقة منكوبة زراعياً وتعليمياً، فيما تخلت عن الدستور والسيادة والقرار، وتنساق، جارفة معها البلد وأهله، في التبعية لميليشيا حزبية، يجاهر قادتها بالولاء المطلق للخارج والتزام أجندته! وفي المحصلة يحاصر نهج الاستتباع البلد ويدفع المواطن ثمن الارتهان!