بعد لقاء ميونيخ بين هتلر وتشامبرلين لتوقيع معاهدة سلام، كتب تشامبرلين لشقيقته بأنه نظر إلى عيني هتلر ورأى شخصاً يثق فيه ويمكن عقد صفقة معه. من جانبه، قال هتلر مطمئناً جنرالاته المعترضين على غزو أوروبا بأنه عمل جنوني ولا يمكن القيام به: «لقد رأيتهم. لقد كانوا دافئين». أي لم يكونوا مستعدين لخوض الحرب.

في كتابه «الحرب العالمية الثانية» يقول الكاتب والمؤرخ الأميركي فكتور ديفيس إن هذه الحرب الرهيبة التي ذهب ضحيتها أكثر من 60 مليون إنسان (ما يقارب 23 ألف قتيل يومياً وأغلبهم من المدنيين) كان يمكن تلافيها أو منعها من البداية لو عرف الألمان أنهم لا يمكن الانتصار بها.

يقول الكاتب إن هذه الحرب العالمية بالمعنى الحقيقي للكلمة لأسباب عدة. أولاً لأن التقدم التكنولوجي في ذلك الوقت كان متطوراً؛ ما جعلها حرباً مميتة على نطاق واسع وقد قتل فيها الخاسرون أكثر من الرابحين. وثانياً هي حرب عالمية لأنها، على عكس الحروب السابقة، اتسعت رقعتها لتشمل قارات خارج أوروبا، وثالثاً أنها حرب محركها آيديولوجي (النازية، الفاشية) وليس فقط بهدف السيطرة على الأراضي والثروات كما كان يحدث في الحروب سابقاً.

الألمان المهزومون في الحرب العالمية الأولى كانوا يستعدون لاستعادة شرفهم، وكانوا يرون أنهم رغم أنهم هُزموا فإن أحداً لم يغزُ بلادهم ويفرض عليهم شروطاً وكانوا قادرين مرة أخرى على الانتصار، في الوقت الذي اقتنع المنتصرون أن ثمن الحرب كان رهيباً ولا يجب أن يدفع مرة أخرى. أي أن الألمان كانوا يملكون إرادة الحرب في الوقت الذي افتقدها الحلفاء وغير مستعدين لدفع الثمن الباهظ.

ولكن كيف استطاع هتلر أن يحتل تقريباً كل الاتحاد الأوروبي الذي نعرفه الآن في سنوات قليلة. الدنمارك في يوم والنرويج في 3 أسابيع وفرنسا في شهرين. يعيدها الكاتب إلى ثلاثة أسباب رئيسية. الاحتواء البريطاني والفرنسي، والعزلة الأميركية، والاتفاقية مع الاتحاد السوفياتي.

أولاً، يقول فكتور ديفيس إن قوة الردع لا قيمة لها إذا لم يعرف عدوك ذلك. لهذا كان هتلر يعتقد أن البريطانيين متأخرون في تحديث ترسانتهم العسكرية رغم أنهم طوّروها في أواخر الثلاثينات. وقد قال لاحقاً الزعيم الألماني إنه لو يعرف ذلك لما قرر مهاجمتهم. ولكن سياسية الاحتواء التي اعتمدوها شجّعت هتلر على التوسع في حربه معتقداً أن الفرنسيين والبريطانيين غير قادرين على ردعه ولا يملكون الرغبة والعزيمة للوقوف بوجه آلته العسكرية.

وثانياً، أن العزلة الأميركية شجعت هتلر وحلفاءه. واشنطن لم تتدخل إلا بعد الهجوم الياباني على بيرل هاربر، وبعد 4 أيام أعلنت ألمانيا وإيطاليا الحرب عليها، أما الاتفاقية مع الاتحاد السوفياتي، وهي السبب الثالث، فساعدت الألمان في تركيز حربهم على الجبهة الغربية من دون أن يقلقوا من أن تفتح جبهة أخرى عليهم، وهذا ما لم يحدث في نهاية المطاف، حيث تلقى الروس أكبر خسارة بشرية (27 مليون قتيل).

وثالثاً، الحرب كما يقول الكاتب، مثل المقياس يستخدمها المعتدي ليعرف مدى حدود الخصم، وهل هو قادر على المواجهة ويملك الإرادة لفعل ذلك. ورغم أن القوة العسكرية والنارية والصناعية والاقتصادية كانت أقوى لدى الحلفاء فإنهم فشلوا بإظهارها بالقدر الكافي. وتاريخياً، تندلع الحرب إذا اختل معيار الردع بين القوى، حيث تشعر قوة ما أنها قادرة على الاعتداء وتحقيق النصر من دون أن تتحمل الثمن. ولكن بسبب العزلة الأميركية وسياسة الاحتواء البريطاني والتعاون السوفياتي قامت حرب كونية غير ضرورية وكان بالإمكان منعها منذ البداية. وهذا ما يحدث في مجمل الحروب، حيث تؤدي هذه العناصر الثلاثة إلى نتائج سيئة. ولا يعني وقوف القوى بجانب الخير أن تكون منتصرة، فأخطاء هتلر بفتح الجبهة السوفياتية وخرق الاتفاقية مع ستالين وعدم الاستماع لجنرالاته البارعين (كان يلتقيهم بشكل دوري ويستمع لهم ويفعل عكس توجيهاتهم على الدوام) كانت من أسباب هزيمته ولا أحد يعرف كيف سيكون شكل العالم لو استمع لهم.

يشير الكاتب في إحدى مقابلاته إلى شكل العالم الذي نعيش فيه والحرب المشتعلة والباردة التي نراها في عالمنا اليوم وأهمية أن نتعلم من دروس التاريخ حتى لو كانت لا تتكرر حرفياً، ولكن الطبيعة البشرية هي ذاتها لا تتغير وينتقد الرئيس بايدن ويصفه بالضعف ويقول إن الشركاء الأوروبيين دافئون ومرتخون كما قال هتلر سابقاً في مواجهة الأخطار المحدقة بهم. وهو درس تاريخي أيضاً للدول المعتدلة الخيرة في منطقتنا التي تسعى لخلق عالم مزدهر ومستقر في مواجهة القوى الشريرة والمتطرفة والتي تسعى لبسط نفوذها وهيمنتها.

يقول المؤرخ الإنجليزي أندرو روبرتس إن تشامبرلين ومن معه لم يعرفوا جيداً هتلر ووثقوا بوعوده؛ لأنهم لم يخرجوا من قوقعة مبنى رئاسة الوزراء، أما تشرشل فقد كان الوحيد الذي حذر ورفض اتفاقية السلام وعرف هتلر جيداً؛ لأنه رأى الشر الكامن في داخله، وقد كان مصيباً.