من أهم أسباب التوفيق استنارة البصيرة؛ فإنها قوة الإدراك الأساسية للإنسان، وبها شرُف على غيره من الكائنات التي سُخرت له، ومن مُتِّع بنور بصيرته لم يَشِنْه ما فاته من غيرها، ومن طُمست بصيرته لم يكن طائل وراء سلامة إحساسه، بل يبقى حبيس العمى الحقيقي الضارّ، ومصداق ذلك قوله تعالى: (فَإنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى القُلوبُ الْتي في الصُّدُور)، ومن مقوِّماتِ استنارةِ البصيرة: إدراك الأمور على حقائقها، وتقديرها بمقاديرها اللائقة بها، وتغليب الرأي الصائب على هوى النفس، وبتوفيق الله تعالى ثم بالاستعانة بهذه الخصال ونظائرها يتقبل الإنسان الحقَّ إذا عُرض عليه، ويتحرى الدقة فيما يأخذ وما يترك، ويهتدي إلى استعمال الميزان القويم إذا تعارضت عنده المصالح والمفاسد، ويتفادى ضحالةَ التفكير وسوء التقدير، ومن أهمل الأخذ بتلك الخصال لم يزل يتخبّط في كل وادٍ من أودية الفوضى والضياع، سواء في ذلك ما يتعلق بعلاقته بربه، وما يتعلق بشؤون حياته وتسيير أموره، وما يتعلق بعلاقته مع غيره من الناس الأقارب منهم والأباعد، فهذه المصالح كلها لا يهتدي إلى درب النجاح فيها إلا من أحسن النظر في الأمور، وتخلص من سطحية التقدير، ولي مع سطحية التقدير وقفات: الأولى: الأعمال والتصرفات الصالحة لأن تُوصف بحسنٍ أو قبحٍ، والتي تصدر من المكلف بإرادته لا بد أن تؤثر إيجاباً أو سلباً في ديانته وعلاقته بخالقه تعالى، أو في شؤونه، أو في علاقاته بالناس، ولها أوزانها المعتبرة شرعاً وعرفاً ونظاماً، فما يتعلق منها بالأوامر والنواهي الشرعية يجب أن يرجع في تقديره إلى النصوص الشرعية، والأحكام الفقهية حسبما تقرر عند العلماء الموثوقين، فيُعطى كل شيء ما قُرِّر له من الاعتبار، ومن الخطأ الكبير أن ينظر إليه بالمنظار الذي اختاره حسب هواه، فقد يرى المرء التصرف هيِّناً وهو بالغ الخطورة، كما قال تعالى: (وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ)، وربما عمل عملاً لا يستشعر أن له بالاً، وهو ميمونٌ عليه لعظمته عند الله تعالى، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله تعالى عنه، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ، لاَ يُلْقِي لَهَا بَالًا، يَرْفَعُهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ، وَإِنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ، لاَ يُلْقِي لَهَا بَالًا، يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ»، أخرجه البخاري، أما ما يتعلق بأعراف الناس ومعاملاتهم والأنظمة التي تحكم حياتهم، فليس الأمر موكولاً فيه إلى ما يتشهاه كل واحد من الناس بسوء تقديره، بل كُلٌّ من هذه الأمور محكومٌ بقواعده التي لا عذر لمن تعاطى معها بالسطحية والتغافل، ومن أراد أن لا يقع تحت طائلة اللوم والمساءلة فيها، فليضع كل شيء منها في نصابه المقرَّر له، ولا يحاول زحزحته عن مستواه. الثانية: من معايير أهمية قدر الشيء تكرارُهُ ودوامُهُ، فمهما كان الشيء قليلاً فإنه يصير ذا شأنٍ باستدامته، فإن كان من الأعمال الصالحة كان أفضل، فعَنْ عَائِشَةَ رضي الله تعالى عنها، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللهِ تَعَالَى أَدْوَمُهَا، وَإِنْ قَلَّ»، وإن كان من الذنوب، فالإصرار عليه قد ينقله من كونه صغيرةً إلى كونه كبيرةً، فالإصرار على الصغيرة يُعتبرُ كبيرةً بشروط ذلك وضوابطه التي قررها العلماء، وإن كان الفعل المستدام أو المتكرر بكثرةٍ من العلاقات الدائرة بين الناس، فإن تكرار الكلمة الطيبة يُقوِّي ركن الودِّ ويُرسِّخه، وتكرار الإساءة الطفيفة يُوغر الصدور، ويُفضي إلى تآكل الودِّ، وربما وقع الشقاق عند إساءةٍ معينةٍ فيستغرب الناس كيف فرقت بين المتصاحبين، وما علموا أنها صادفت الكثير من نظائرها ففاض عندها الكيل، كما قال الشاعر: تَصَرَّمَ مِنِّي وُدُّ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ ... وَمَا خِلْتُ بَاقِي وُدِّهَا يَتَصَرَّمُ قَوَارِصُ تَأْتِينِي وَيحْتَقِرُونَهَا ... وَقَدْ يَمْلأُ الْقَطْرُ الإِنَاءَ فَيُفْعَمُ.

الثالثة: من أسباب تضاعف مقدار العمل التي من تجاهلها أساء التقدير، أن يكون محل قدوة، فعلى الإنسان إذا أراد أن يشرع في عملٍ من شأنه أن يُقتدى به فيه أن ينظر: هل هو حسنٌ يصير به قدوةً صالحةً، أو سيءٌ يفتح به على الناس بابَ فتنةٍ وشرٍّ وشقاقٍ وبدعةٍ؟ ففي حديث جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله تعالى عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً، فَعُمِلَ بِهَا بَعْدَهُ، كُتِبَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا، وَلَا يَنْقُصُ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ، وَمَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً، فَعُمِلَ بِهَا بَعْدَهُ، كُتِبَ عَلَيْهِ مِثْلُ وِزْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا، وَلَا يَنْقُصُ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ»، أخرجه مسلم، والمبادرات النافعة للناس والتي ما زال الخلف يقتدي فيها بالسلف ما هي إلا أعمالٌ عاديّةٌ في صورتها لكن عموم النفع بها جعلها متكاثرةَ القدرِ.