إنسان هذا الزمان تائه، حائر بين ما يسمع وما يرى وما يتمنى وما يحدث أمام عينيه، يرى نفسه يعيش في عالم ملتهب ويسمع من التهديد والوعيد المتبادل بين أطراف مختلفة ما يزيده قلقاً على نفسه ووطنه وذويه، وفي ذات الوقت يسمع عن مبادرات تطرح هنا وهناك ومفاوضات تنتقل من عاصمة لأخرى لإخماد الحرائق المشتعلة لكنها لا تتجاوز كونها مجرد جرعات مخدرة يمنحها أرباب الدبلوماسية للرأي العام حتى يصبر وينتظر قرارات لا تتخذ وآمالاً لا تتحقق، بل وقد تكون أداة لمنح الأقوياء المدى الزمني اللازم لالتهام الضعفاء، ويتمنى أن يعيش في عالم مستقر وأن ينعم بحقوقه المسلوبة في الحياة والطعام والشراب والتعليم والعمل والزواج والإنجاب.

لقد تحولت حقوق الإنسان في بعض بقاع الأرض إلى كوابيس، وتحولت على أيدي كبار العالم إلى سياط يجلدون بها أنظمة الحكم التي تسير في الاتجاه المعاكس، وإلى أدوات يخلقون بها الفتن بين أبناء الشعب الواحد أو بين الجيران. ما يحدث في أرجاء الكوكب علمنا رغماً عنا الرقص على سلالم الخوف مما هو آت والرعب من مفاجآت الأيام التالية، أصبحنا معلقين في الهواء نستعد وننتظر الاشتعال الأكبر وفي ذات الوقت نبحث عن وسائل للهروب منه، ندرك أنه الهروب المستحيل من مصير مفروض على الإنسانية كلها. منذ سنوات ونحن نعيش أجواء الحرب العالمية الثالثة، نترقب وننتظر ونقلق ثم نهدأ، يضعوننا في حالة تأهب مستمر، وكأن هناك من لا يريد للعالم أن يعيش في سكينة وطمأنينة، من يستمتع بجعل الشعوب تتقلب على نيران هادئة يزيد من قوتها في منطقة ويخفف من اشتعالها في منطقة أخرى..

تقلبات تجعل المنطقة بل العالم كل يوم في حال، حروب صغيرة وأخرى كبيرة، نزاعات وصراعات ومشاورات ومفاوضات وفي الخلفية يتردد صدى «الحرب العالمية الثالثة آتية». ساسة العالم ليسوا كأسنان المشط، منهم من يسعى ويبذل كل الممكن لإخماد الحرائق المحيطة ببلاده، يريد عالماً آمناً مستقراً متسامحاً، يسعى إلى نشر السلام ويمد يد المساعدة للمحتاجين والمنكوبين ويدرك أن العالم يتسع للجميع، يحلم بمستقبل أفضل لشعبه ويعمل لكي يصبح حلمه حقيقة، ولكن المتربصين لا يتركونه يكمل مسيرته، يعرقلونه ويشككون فيه ويسعون لخلق الفتن داخل بلاده وفي محيطه.

نمط آخر من الساسة هم أولئك الذين يصنعون الحروب ويطمعون في أرض الغير، ويسعون لنشر الخراب والدمار في مناطق مختلفة حول العالم، يدعمون طرفاً ضد آخر بالسلاح والمال حتى يطول أمد الحرب، ينحازون دبلوماسياً ويسعون لتجنيد آخرين لتبني مواقفهم، يخلقون الفتن ويزعزعون الدول، يجندون الإعلام والكتائب الإلكترونية للتحكم في إرادة الجماهير، لا يكتفون بصب الزيت على النار في منطقة واحدة حول العالم لكنهم يمتلكون القدرة على إشعال عدة حرائق في آن واحد، يحاربون على عدة جبهات، يستخدمون المشروع وغير المشروع في أدوات الدبلوماسية للاستحواذ على ما يريدون.

الصنف الثالث من ساسة العالم هم التابعون، الذين يسيرون في ركب الأقوياء، ينطقون بلسانهم ويتبنون رؤاهم ويدافعون عن مواقفهم ويلتزمون بالنص من دون أي خروج عنه حتى ينالوا حماية القوي، متوهمين أنهم سيظلون في مأمن طالما هو راض عنهم. صنف رابع وأخير هم صنّاع الوهم، وقد يكون صانع الوهم منتمياً للصنفين الثاني والثالث في ذات الوقت، وصنّاع الوهم هم أولئك الذين يحرصون على أن تظل الدول والشعوب في حالة من القلق والخوف كل الوقت، يوحون دائماً بأن الخطر قادم، وأنه لن يبقي ولن يذر، يتحدثون دائماً عن حرب عالمية ثالثة، وأحياناً يلوحون باستخدام الأسلحة النووية التي يمكنها إبادة كل كائن حي على الأرض. ولا يكتفون بالحروب وحدها لنشر الخوف بل يلوحون من وقت لآخر بأوبئة قادمة تكون أخطر على البشرية من أي حروب.

الإنسان تائه ما بين حروب تدور رحاها حولنا وتشهد تطورات من وقت لآخر توحي بإمكانية الاتساع وحرب كونية يتحدثون عنها من وقت لآخر، وأزمات اقتصادية تطحنه وتحوله إلى كائن عاجز عن الوفاء بالتزاماته، وحصار وتجويع وتعطيش وحرمان من أبسط الحقوق في مناطق متفرقة. الأزمات التي يلاحقون بها الإنسانية لن تنتهي، بلا شك.

ستنتهي الحرب الروسية الغربية في أوكرانيا يوماً ما، والحرب الإسرائيلية على غزة ستتوقف عندما يريدون، ولكن ستندلع حروب أخرى في مواقع مختلفة في العالم، وأزمات اقتصادية ومعيشية ستتواصل وتتنقل من مكان لآخر، بينما الحرب الكونية أو النووية لن تحدث إلا بقرارات انتحارية، لأنها لن تدمر غيرهم وتتركهم، ولن تخرب منطقة وتترك أخرى، وسيكون مشعلوها من أوائل ضحاياها.