تتفاعل التطورات الحربية على مدى المنطقة منذ سبعة أشهر، ويتأرجح الأفق بين الهدنة العابرة وأمل التسوية، ومخاوف الحرب الشاملة التي يمكن أن تؤدي إلى إعادة النظر في البنية الجغرافية - السياسية للشرق الأوسط.

ومنذ سبعة أشهر، وقبلها، تتولى عشرات القنوات التلفزيونية الفضائية، وعشرات الإذاعات والصحف الورقية والرقمية، وآلاف المواقع الإلكترونية، من كل حدب وصوب، عبر مئات المراسلين في كل مكان، تغطية الأحداث ليلاً ونهاراً على مدار الساعة، وتتولى تحليل كل ما يجري وطرح جميع المسائل، من خلال التعليقات المباشرة والندوات التي لا تُحصى، الجامعة وجهات النظر قاطبةً. بحر شاسع من المعلومات والآراء الواصلة إليك حيث تكون، في كل وقت، لم تحظَ بها، ولا بالنَّزر اليسير منها، أيُّ حرب من حروب الشرق الأوسط وانقلاباته الكثيرة، المتوالية منذ عام 1948، فضاء إعلامي غير مسبوق مفتوح في كل ثانية على كل شيء.

هذا الفضاء الإعلامي الشرق أوسطي الكبير، إلى أي حدّ يحقق غاية الحوار والإقناع؟

لا شكّ في أن الإجابة الموضوعية عن هذا التساؤل تحمل الكثير من الخيبة ومن اللاجدوى. ذلك أن مجتمع الجماعات، الذي عجزت دول المنطقة عن تحويله إلى مجتمع أفراد-مواطنين على مدى قرن كامل من الزمن، لا يستطيع ممارسة الحوار الحقيقي الموصِّل إلى التفاعل المعرفي والإقناع. ثمة ربما استثناءات فردية قليلة في هذا المنحى العام، لكنها لا تؤثّر في شيء ولا تغيّر شيئاً.

ولا بدّ من الإشارة مجدّداً، من أجل ضرورات التحليل، إلى أن مائة عام من التعايش في كيانات المنطقة لم تستطع تحويل مجتمع الجماعات إلى مجتمع الأفراد-المواطنين فحسب، بل زادت أيضاً من بروز الجماعات، الطائفية والمذهبية والعشائرية والعائلية والإثنية، وقوّت من تمايزها. وإذا كان صعود مجتمع الجماعات قد وضع حركات التغيير في كل مكان في الطريق المسدود، فمن نتائجه العديدة الأخرى أنه حال ويَحول دون الحوار الحقيقي والإقناع.

في مجتمعات الأفراد-المواطنين يغيّر الناس آراءهم وقناعاتهم في ضوء تجاربهم وتجارب مجتمعاتهم وما ينتج عنها، وفي ضوء الحجج المنطقية المتبادلة، كلما دعت الحاجة إلى ذلك، ومرّات عدة في حياتهم. وإذا أخذنا فرنسا مجرّد مثال، كان الحزب الشيوعي الفرنسي في وقت ما يمثل أكثر من 20 في المائة من الفرنسيين، فلم يعد له اليوم نسبة تمثيل تُذكَر. والحزب الاشتراكي، أقوى الأحزاب السياسية على الإطلاق في وقت ما، انحدر في انتخابات 2022 الرئاسية إلى ما دون الـ2 في المائة. وحزب الجبهة الوطنية اليميني المتشدد عرف صعوداً لافتاً في السنوات الأخيرة. وحزب إيمانويل ماكرون ظهر من العدم ليوصله مرتين إلى رئاسة البلاد... وتشهد دول أوروبا الغربية كلها مثل هذه التحولات في الرأي العام.

يستحيل حصول هذه الحركية الفكرية والمعرفية في مجتمع الجماعات الذي هو مجتمعنا، لأن أبناء الجماعات لا يستطيعون وضع مسافة تُذكَر بين رأيهم وذاتهم. فرأيهم هو هم. وكل تغيير حقيقي في الرأي هو، في صورة واعية أم لاواعية، نوع من هدم الذات. أكثر من ذلك، رأي الأفراد، النمطي، الموحّد، العصيّ على إعادة النظر، هو رأي جماعتهم أيضاً وأساساً. وكل تغيير فعلي فيه هو، في صورة واعية أم لاواعية، نوع من الخيانة لجماعتهم وتهديد لنفوذها، وربما لوجودها. فليس من فصلٍ بين رأي الأفراد وذواتهم الشخصية والجماعية. لذلك لا مجال حقاً لديناميكية الحوار، ولإعادات النظر، والمساءلة، والإقناع، في مجتمع الجماعات القلقة المتصارعة، في السر أو العلن. وبقدر ما يكون الرأي الآخر منطقياً ومستنداً إلى حقائق ووقائع جلية، بقدر ما يشتد رفضه، ويصبح مثيراً للغضب، ويواجَه بشتى النعوت والتُّهم. إنه «برج بابل».

ويتساءل المرء: ألا توجد في مجتمع الجماعات نخب مثقفة يمكنها تجاوز هذه الحلقة المفرغة؟ أمر ممكن، لكن ما مدى اتساع مثل هذه الظاهرة، وما مدى تأثيرها في مسار مجتمعها؟ إذا توقفنا قليلاً عند الحالة اللبنانية، المتميزة، رغم كل شيء، بقدر لافت من تراث الحريات والحركية الثقافية والانفتاح المعرفي على العصر والعالم، يتراءى لنا أنها قادرة، ربما أكثر من سواها من بيئات المنطقة، على تجسيد فعل النخبة المثقفة في مجتمع الجماعات. لكن حين نتوقف عند ما آلت إليه انتفاضة 17 أكتوبر (تشرين الأول) 2019 الشعبية، التي لعبت النخب المثقفة دوراً بارزاً فيها، يتضاءل رهاننا على تأثير النخبة. لا شك في أن تلك الانتفاضة السلمية واجهت قمعاً شديداً من التنظيمات المسلحة القابضة على البلاد، وانصبَّت عليها اتهامات عنيفة وظالمة بالعمالة، وسوى ذلك من تهم جاهزة، بهدف ضربها وتفكيكها. مع ذلك، لاقى ممثلو تلك الانتفاضة تأييداً مهماً من الناخبين أوصلوا كتلة وازنة منهم إلى البرلمان اللبناني. لكن سرعان ما تشظَّت تلك الكتلة وتبعثرت، وانعدمت قدرة قوى التغيير على إطلاق أي تحركات احتجاجية وازنة، على الرغم من الانهيار اللبناني المطبق. كأن جماهير انتفاضة «17 تشرين الأول» تبخّرت في الهواء وأضحت أثراً بعد عين.

اللافت، ربما أكثر، في مصير تلك الانتفاضة، هو البلبلة الفكرية التي تسود عشرات الجمعيات والحركات المنبثقة عنها أو المنتمية إليها في كل أنحاء لبنان، إنْ داخل هذه الهيئات، أو في العلاقة فيما بينها. ومن المؤسف القول إن هذه البلبلة لا علاج محتملاً لها. صحيح أن هذه الهيئات تلتقي جميعها على إدانة الفساد والمطالبة بالإصلاح الجذري. لكنَّ هذه الدعوة تبقى ضبابية، غير قابلة للتحقيق، مهما دخلت في التفاصيل، لأن ثمة تناقضات عميقة في هذا الوسط التغييري في فهم المسألة اللبنانية، وفي إدراك معناها وخصوصياتها وجذورها وآفاقها. وهي تناقضات لا خلاص منها. لماذا؟ صحيح أن المسألة اللبنانية معقَّدة، لا يمكن فهمها بالعودة إلى ميثاق 1943، أو إلى تأسيس «لبنان الكبير» عام 1920، إذ تتطلب معرفة وثيقة بمسار «الفكرة اللبنانية» في الأزمنة الحديثة، خصوصاً في القرن التاسع عشر، وهو أمر غير متوافر لا في التاريخ الرسمي اللبناني، ولا في الفضاء الإعلامي الشاسع على مدار الساعة. لكن ثمة ما هو أبعد من ذلك. فالبلبلة الفكرية السائدة في مجمل الهيئات الرافضة، هي تعبير عن كون هذه الهيئات ومكوناتها، منبثقة عن مجتمع الجماعات اللبناني المتأزّم، وهي تحمل في وعيها، وخصوصاً في لاوعيها، مؤثراته وتناقض رؤاه ومتاهاته.

على هامش الصراع الكبير مع الكيان الصهيوني، يتكرر هذا المأزق اللبناني هو نفسه، بأشكال محلية مختلفة، في مجتمع الجماعات في مجمل كيانات المشرق، وعلى نحو أكثر حدة في الكيانات التي تضم جماعات مسلحة خارج إطار الدولة، تنظر إلى نفسها على أنها جماعات منتصرة وصاحبة امتيازات، وجماعات أخرى غير مسلحة، رافضة التسليم بهذا الواقع. إلى متى، وإلى أين، في ظل الفضاء الإعلامي الشاسع، أو خارجه؟