أسامة عبد الرحمن

يكاد الأكراد في العراق كما يبدو يتمتعون بدولة غير معلنة أو شبه دولة لها رئيسها وبرلمانها وحكومتها وجيشها وعلمها وقوانينها . وتوقع عقوداً مع شركات أجنبية في مجال النفط وغيره . وتكاد هذه الصورة تبدو وكأنها تجعل العراق غير موحد أو مقسماً، أو قابلاً للتقسيم . وإذا نحت الأطراف الأخرى في العراق هذا المنحى فسيكون العراق دولاً أو دويلات .

قد يقول قائل، ولماذا لا يكون للأكراد دولة وهم عبر التاريخ يطمحون إلى قيام دولة . وهذا التساؤل قد يكون مشروعاً . وهناك أقليات في مناطق مختلفة من العالم تطمح إلى قيام دولة . والمعضلة على المستوى العام، هو أن هناك أقليات على مستويات متعددة من حيث الكثافة، وإن هذا الاتجاه نحو التجزئة، ربما وصل بالتجزئة إلى حدود ضيقة، وحدود أكثر ضيقاً، وليس هناك معيار يحكم هذه الحدود . حتى الأكراد في العراق توجد في إقليمهم أقليات . فهل يسمح لكل أقلية أن تؤسس دولة . إن هذا يعني نهاية للحدود القائمة للعديد من الدول وتفكيكاً لهذه الدول وربما أدى ذلك إلى فوضى عارمة .

لقد أعطت الولايات المتحدة الضوء الأخضر للأكراد في شمال العراق لكي يحققوا قدراً من الاستقلال عن السلطة المركزية في العراق . وكان ذلك قبل غزو العراق واحتلاله، وترسخ ذلك فيما بعد، وأصبح كردستان العراق يمثل ملامح الدولة ويتمتع بصلاحيات واسعة، أو يمارس صلاحيات واسعة في الحكم والإدارة والأمن والسياسة . وقد أعلنت قيادته سعيها للانفصال وإقامة دولة على أساس حق تقرير المصير .

وفي تركيا، حيث العدد الكبير من الأكراد لا يكاد الأكراد يحصلون على أبسط حقوقهم المدنية والسياسية والثقافية . وقد حاولت الحكومة التركية مؤخراً منحهم بعض الحقوق الثقافية والمدنية .

صحيح أن حزب العمال الكردستاني رفع السلاح في سعيه للحصول على حقوقه، ومن بينها مشروع الدولة، ولكن القبضة العسكرية التركية، دخلت في صراع مع حزب العمال الكردستاني . . وظل الأكراد في تركيا مجردين من كثير من حقوقهم الأساسية . وتكاد تركيا تضيق الخناق عليهم وتعتبر أن أي حركة تعطى للأكراد حتى من منطلق حقوقهم الأساسية ستقوض كيان الدولة وهي في هذا السياق تتشدد إلى أبعد الحدود بحيث يبدو محظوراً على أكراد تركيا، التمتع بالحد الأدنى من الحقوق السياسية والثقافية والمدنية .

ومن المفارقات اللافتة للنظر أن الولايات المتحدة تغض الطرف إلى حدّ ما عن الممارسات التي تقوم بها تركيا، وتعتبر حزب العمال الكردستاني منظمة إرهابية، ولا تبدي أي دعم لأكراد تركيا، في الحصول على حقوقهم السياسية والمدنية والثقافية، في الوقت الذي دعمت حركة أكراد العراق في اتجاه الاستقلال، أو ما يشبه الاستقلال، والتمتع بقدر كبير من الصلاحيات والحريات منذ أمد، وقبل غزوها واحتلالها للعراق ثم اتجهت إلى ترسيخ هذه الصورة وترسيخ وضع الأكراد في شمال العراق، ومدهم بكل أسباب العون والمساعدة، مع أنها بعد غزوها واحتلالها للعراق، وبسطها الهيمنة عليه، حاولت أن تظهر بمظهر الحريص على وحدة العراق وسيادته، رغم انها حفظت للأكراد في شمال العراق، وضعاً استقلالياً إلى حد كبير . . مع أنها تعلم أن هذا الوضع الاستقلالي . . يعتبر تهديداً لوحدة العراق .

ولكن مع كل ذلك يبدو أن أكراد العراق يستحيل عليهم إقامة دولة مستقلة، لأن تركيا تعتبر هذا الأمر أكثر من خط أحمر ولن تسمح بذلك مطلقاً، وستبذل كل ما في إمكانها لمنعه . ذلك أنها تعده خطراً كبيراً في وضع يمثل الأكراد فيه نسبة لا يستهان بها داخل تركيا . ولذلك فإن قيام دولة كردية في شمال العراق يمثل بالنسبة لها مشروعاً لدولة كردية أوسع، وهذا ما تعتبره التهديد الأكبر لكيانها . ولهذا فإنها لن تسمح أبداً بقيام مثل هذه الدولة، وستقضي عليها بكل الوسائل التي لديها . وإذا كان من المفارقات اللافتة للنظر أن الولايات المتحدة دعمت أكراد العراق بكل الوسائل حتى وصلوا إلى ما يشبه الدويلة، متمتعين بقدر كبير من الاستقلال في المجالات السياسية والاقتصادية والأمنية . . فإنها لا تدعم فيه أكراد تركيا، وتغض الطرف عن حرمان تركيا لهم حتى من أبسط الحقوق السياسية والثقافية والمدنية .

وهذه المفارقة تتضح فيها مفارقة أخرى، وهي أن الوضع الاستقلالي لأكراد العراق يحجم نزعة الاستقلالية فيه ويمنع إلى حد كبير تحقيق الدولة، إصرار تركيا على عدم السماح لدولة كردية على حدودها . وهي التي تضم العدد الكبير من الأكراد، بينما الولايات المتحدة تدعم الوضع الاستقلالي لأكراد العراق، فيما تدعم تركيا في موقفها ضد الأكراد فيها، وتبدي حرصاً على تحالفها الاستراتيجي معها .