الحروب الاقتصادية في عصر "ترامب" الصين بؤرة القصف...

 بالرجوع إلى دراسة الأسباب المباشرة و غير المباشرة لاندلاع الحروب التي عرفها العالم طيلة القرنين ١٩ و ٢٠، ندرك أن البواعث الاقتصادية و التجارية لعبت دورا محوريا في نشوب أغلبها، ولعل خطاب الرئيس الأمريكي " دونالد ترامب" في يوم تنصيبه و الشعارات التي حملها المتظاهرين الرافضين لرئاسته أو لنهجه، تعد مقدمة لمرحلة قادمة حبلى بالأزمات ذات الطبيعة التجارية و الاقتصادية..

فدعوة "ترامب" لنهج سياسة حمائية، و انغلاق الاقتصاد الأمريكي، و الحد من تدفقات الاستثمارات و رؤوس الأموال الأمريكية إلى الخارج، وتقييد حركة الدخول و الخروج للأسواق، يعرف في الأدبيات الاقتصادية بالسياسات الحمائية في مقابل سياسات الانفتاح و التبادل الحر. و التي شكلت العصا السحرية لتحقيق التنمية و الرخاء، تبعا للتصور الأمريكي، لكن يبدو من خطاب الرئيس "ترامب" أن السحر انقلب على الساحر.

فأمريكا منذ انهيار الاتحاد السوفياتي و سقوط حائط برلين، و تزعمها للنظام العالمي الجديد و إرساء نظام القطبية الأحادية، عملت على إزاحة كل القيود و الحواجز في وجه حركة رؤوس الأموال و السلع على مستوى العالم، و توجت هيمنتها على النظام العالمي بصياغة رؤية تنموية مفادها أن التجارة الحرة و الانفتاح هو بوابة التنمية، و عملت على بلورة هذه السياسة العالمية عبر آليتين :

الأولي : منظمة التجارة العالمية و البنك الدولي و صندوق النقد الدولي

الثانية : اتفاقيات التبادل الحر التي وقعتها مع العديد من بلدان العالم و أبرز مثال لها اتفاقية " النافتا" مع كندا و المكسيك و اتفاقيات التبادل الحر مع المغرب و الأردن و مصر ...

هذه الآليات المرنة عملت بالتوازي مع القوة الصلبة الأمريكية، على "أمركة" الاقتصاد العالمي وجعل هذا الأخير في خدمة المشروع الامبريالي الأمريكي أو ما عرف ب" مشروع القرن الأمريكي".غير أن خطاب الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" يعد اعتراف تاريخي بنهاية عصر الهيمنة الأمريكية -الاقتصادية و العسكرية و الثقافية - على العالم، ورغم أن خطابه لم يصرح بذلك بوضوح، إلا أن السياق العام الذي يعرفه الاقتصاد الأمريكي خاصة والعالمي عامة يؤكد ما ذهبنا إليه...

لابد من التأكيد بأن تحرير الاقتصاد العالمي و رفع القيود على حركة رؤوس الأموال و السلع، مكن العديد من البلدان النامية من تحقيق معدلات نمو اقتصادي جد مرتفعة، و نقل التكنولوجيات المتطورة من المركز إلى الأطراف، لاسيما بلدان شرق آسيا التي أصبحت اليوم عصب الاقتصاد العالمي...فصعود اقتصاديات الصين و الهند وغيرها ، يشكل أهم تحدي للاقتصاد الأمريكي الذي فقد العديد من المزايا النسبية ، خاصة في جانب الاقتصاد الرمزي / المعرفي. فالصين وهي المنافس الأكثر شراسة لأمريكا في الوقت الراهن، لم تعد طموحاتها محصورة في الاستثمارات الكثيفة اليد العاملة، و إنما ارتقت في السلم الصناعي و التكنولوجي لتركز على الاستثمارات الكثيفة رأس المال و المتقدمة تكنولوجيا...

فالتحدي الذي يواجه أمريكا هو الحد من صعود القوة الصينية خاصة و باقي الاقتصاديات الناشئة عامة، و لا ينبغي اعتبار أن التركيز على الصين هو إهمال لباقي الاقتصاديات الناشئة أو المتقدمة ، لكن الصين بحكم الحجم الديموغرافي و القوة العسكرية المتنامية والسيولة النقدية الناجمة عن النمو السريع تشكل أهم تحدي للإدارة الأمريكية في القادم من الأعوام ، لاسيما وأن الصين في قلب منطقة حبلى بالموارد المالية والبشرية ...

 وقواعد اللعبة الناظمة للخطاب الأمريكي تقوم على مبدأ أن السوق الأمريكي شكل و لازال، وجهة للصادرات الصينية و الشرق آسيوية وهو بذلك قاطرة للنمو في هذه الاقتصاديات. لكن الجانب الأهم في هذه القاعدة هو أن غزو السوق الأمريكي بالسلع ذات المنشأ الشرق آسيوي، بقدر ما أفاد بلدان المنشأ فإنه بالمقابل حقق الكثير من المزايا للداخل الأمريكي ويمكن اختزال هذه المزايا في :

١- توفير سلع منخفضة الكلفة و هو ما ساهم في تعزيز القوة الشرائية للمواطن الأمريكي و توسيع خياراته الاستهلاكية، فما يفقده السوق الأمريكي من وظائف عمل يتم تعويضه في انخفاض كلفة المنتجات الاستهلاكية مقارنة بالمنتج الأمريكي الصنع..

٢- أهمية السوق الأمريكي كوجهة الصادرات الصينية خاصة، جعل الولايات المتحدة الأمريكية تستفيد من سيولة مالية تم جذبها من المركزي الصيني كاستثمارات في سندات الدين الأمريكي تعزيزا لقوة الدولار، فسياسة الصين التصديرية تقوم على أساس تخفيض قيمة اليوان في مواجهة العملات الرئيسة لاسيما الدولار ...

واستنادا إلى هذه العلاقة فإن الرئيس الأمريكي و إن كان "يعرف من أين تأكل الكتف" إلا أنها معرفة بدائية و متجاوزة و تنتم على رؤية محدودة الأفق، فحرص إداراته على إطلاق دعوات الانعزالية و الحمائية هو رغبة في ابتزاز الاقتصاديات الصاعدة، التي تحتاج إلى استقرار في الاقتصاد العالمي و تجنب الاهتزازات في الأسواق الأساسية، خاصة و أن العديد منها لم يتعافي بعد من أثار الأزمة المالية لعام 2008، ودفعها - الاقتصاديات الناشئة و في مقدمتها الصين- إلى تقديم تنازلات مالية و اقتصادية للاستمرار في الاستفادة من الوضع القائم، غير أن هذا التوجه و إن كان قد أفاد الاقتصاد الأمريكي في السابق-خاصة في جانب ضخ فائض السيولة النقدية من الصين و البلدان النفطية إلى الداخل الأمريكي- إلا أن الاستمرار على نفس الوثيرة لم تعد مجدية...

 فاللاعبون الجدد في الساحة الدولية على قدر كبير من الرزانة السياسية و الفعالية الاقتصادية،لاسيما بلدان شرق أسيا التي تصنع مجدها وقوتها في صمت و بعيدا عن الضوضاء. فالاقتصاديات القوية توجهها حكومات قوية تستند إلى الكفاءة و التخطيط البعيد المدى، فالمضايقات التي تتعرض لها الصين قد تعرضت لها اليابان في ثمانينات القرن الماضي و بنفس الأسلوب، ولم تستطع هذه المضايقات وقف القوة الاقتصادية اليابانية، ونفس الأمر ينطبق على الصين وباقي الاقتصاديات الناشئة. فالتطور و التقدم الاقتصادي في بيئة تعتمد اقتصاد السوق لا يمكن أن يتم في ظل نظم حكم فاسدة وغير فعالة وفي ظل مجتمعات مفككة و غير منسجمة...

من هذا المنطلق يمكن الجزم بأن تهديدات الإدارة الأمريكية الحالية لن تنجح في استنزاف موارد وقدرات إلا البلدان الهشة -و للأسف العالم العربي منها- ، أما البلدان القوية فهي تمتلك من أوراق الضغط و المناورة ما يمكنها من كبح جماح القوة الأمريكية ومحاصرتها اقتصاديا و تجاريا، عبر نفس الآليات التي اعتمدتها أمريكا في السابق لتحقيق مشروعها الإمبراطوري، فالصين و غيرها من الاقتصاديات الصاعدة، تستطيع استنادا لآليات منظمة التجارة العالمية من اتخاذ نفس التدابير الحمائية، وفقا لمبدأ المعاملة بالمثل... فالعالم سيشهد دون شك حروب اقتصادية عنيفة على شاكلة ما حدث بعد الحرب العالمية الأولى، لكن خلال هذه الحقبة ستكون بؤرة القصف الصين وجيرانها...والخاسر الأكبر العالم العربي الذي لازال لم يعيش عصر الفوضى و التخلف والاستبداد الداخلي و التدخل الأجنبي...