ما نود أن نخلص إليه من كل ما تقدم هو أن الأحزاب الشيوعية في العالم العربي على الأقل هي بذاتها كانت قد اصطفت وراء خروشتشوف في انقلابه على الاشتراكية، وهي نفسها التي أدانت وما زالت تدين ستالين بمذابح مزعومة بحق الشيوعيين وغير الشيوعيين، وهي التي نادت وراء خروشتشوف بإسقاط دكتاتورية البروليتاريا . هذه الأحزاب جميعها غارقة في الخيانة حتى إلى ما فوق الأذنين . فإذا ما كانت عصابة المخابرات السوفياتية قد شلحت رداء الشيوعية الذي لم يعد يستر عورتها في العام 1991 فقط - وهو ما كنتُ قد أكدته لقيادة الحزب الشيوعي الأردني مبكراً جداً في العام 1963 ، وألمح إليه خروشتشوف في مذكراته بعد طرده حيث أكد أن سروال الإتحاد السوفياتي سيسقط قريباً ويظهرعيبه 1974- فإن الأحزاب الشيوعية في محيطنا العربي لم تشلحة إذ ليس غيره ما يمكن أن يستر خيانتها حتى وهي تعلن سياسات كاذبة ولا تمت إلى الشيوعية بصلة، بل هي نفسها تعلم علم اليقين أنها سياسات كاذبة لا تؤدي إلى أي مكان آخر، لكن ليس هناك بديل يستر خيانتها ويغطي على إفلاسها السياسي . كل التفوهات الماسخة التي تفوه بها خروشتشوف لإرضاء أولياء أمره من العسكر لا تجرؤ أن تتخلى عنها هذه الأحزاب الخائنة . لا أدري إذا ما كان خروشتشوف قد استغبى نفسه، وهو الغبي في كل حال كما لاحظ ستالين ذلك، أم استغبى الآلاف من مندوبي الحزب في مؤتمرهم الثاني والعشرين 1961 فسخر بكل صفاقة من مبدأ الصراع الطبقي إذ قال باستغراب .. لماذا علينا أن يصارع بعضنا البعض الآخر كي نسر الأعداء !! على هذا النحو بفهم الصراع الطبقي هذا الغبي !! إذا كان للغباء مثال في تاريخ البشرية فهو خروشتشوف دون شك، ولا عجب في ذلك فمعهد الهندسة في دونيتسك كان قد طرده في عشرينيات القرن الماضي لغبائه، كما كان ستالين قد وصمه بالغباء، حين نهره في أحد الإجتماعات بالقول .. " إنت أسكت شو بفهمك ! " .

في خمسينيات القرن الماضي جميع الأحزاب الشيوعية – باستثناء الحزب الشيوعي الصيني والألباني - اصطفت وراء خروشتشوف مرحبة يهرطقاتة حتى وصل بها الأمر إلى اعتباره منقذاً للثورة الإشتراكية !!

منقذاً مماذا !؟

لم يسألوا أنفسهم هذا السؤال، بل لم يشاءوا أن يسألوا مثل هذا السؤال الحاسم لأن الجواب عليه كان من شأنه أن يدينهم ويدين خروشتشوف . كان الاتحاد السوفياتي في الحرب العالمية مارداً باعتراف تشيرتشل بجانب أقزام هم الدول الرأسمالية الكبرى الثلاث، بريطانيا والولايات المتحدة وفرنسا . الجبهة الغربية التي افتتحتها الدول الرأسمالية الثلاث في إنزال النورماندي لم تزد عن 197 ألف جندياً وقد أُنزلوا قبل إنتهاء الحرب بقليل في 6 يونيو حزيران 1944، بعد تهديد الجنرال ايزنهاور بالاستقالة، لا ليحاربوا بل لنيل حصتهم من مغانم الحرب كما صرح ستالين في مؤتمر بوتسدام . فعندما وصلوا شرق فرنسا دون أن يحاربوا بما يذكر احتاجوا إلى حماية من القوات السوفياتية كيلا يُبادوا عن آخرهم . ولإنقاذهم فتحت الجيوش السوفياتية بأمر من ستالين في 12 يناير كانون الثاني 1945، قبل أن تأخذ استراحتها المقررة، أكبر جبهة حربية عرفت في تاريخ الحروب حيث امتدت طولا بعرض أوروبا من شواطئ البلطيق شمالاً حتى جبال الكرابات جنوباً . ولما وصلت قوات الجبهة الغربية قريباً من برلين لم تكن تزيد على 700 ألف جندياً . ولو كان ستالين على درجة ولو خفيضة من خبث تشيرتشل لطلب من جيوش الغرب أن تقتحم برلين ولبادت الجبهة الغربية بأكملها قبل أن تدخل برلين، ولوفر ستالين أكثر من 300 ألف من 400 الف جندياً سوفياتياً قتلوا في معركة برلين وحدها . في مايو أيار 1945 بلغ عدد الجيوش السوفياتية 6.5 مليون جندياً بعد أن فقدت 9 ملايين جندياً . عمّر الاتحاد السوفياتي كل ما دمرته الحرب وزاد علية خلال أربع سنوات فقط، أما دول اوروبا الغربية ويريطانيا فلم تستكمل إعادة الإعمار في عشر سنوات رغم مساعدتها من قبل الولايات المتحدة بمبلغ 12.5 مليار دولار وقيمتها اليوم 125 ملياراً، مع أن الدمار الذي لحق بالإتحاد السوفياتي كان يساوي عشرة أضعاف الدمار في أوروبا الغربية وبريطانيا . وفي العام 1951 بدأ الاتحاد السوفياتي بتطبيق الخطة الخمسية الخامسة 1951 – 1955 التي أراد بها ستالين أن يثبت للغرب الرأسمالي أن الاتحاد السوفياتي الإشتراكي ليس هو الغالب في الحرب فقط بل وفي الإنتاج السلمي أيضاً كما توعد في العام 1949 رداً على تشكيل حلف شمال الآطلسي العدواني . لكن خروشتشوف ألغى تلك الخطة حال ظهوره في قبادة الحزب في سبتمبر ايلول 1953 . لئن كان هناك أي إنقاذ بظهور خروشتشوف بقيادة الحزب فهو إنقاذ البورجوازية الوضيعة من الاشتراكية التي كانت ستنتصر إنتصاراً تاريخياً لا رجعة عنه في العام 1955 .

الآحزاب الشيوعية في العالم العربي لم تعلم أن خروشتشوف كان أن ندم على خيانته للثورة الاشتراكية بعد أن أدرك المآل الرديء المنحط الذي آل إليه، وخطط لأن يعود القهقرى لكن سبق السيف العذل ففي أكتوبر 1965 انفرد به العسكر وخيروه بين القتل بالرصاص أو الإستقالة فاختار الجبان الغبي الإستقالة .

خروشتشوف ندم على خيانته للإشتراكية لكن الأحزاب الشيوعية لم تندم ما زالت سائرة في غيها الخياني . من المحال على الشيوعي الماركسي أن ينجح في أن يتلوّن بغير لون يخفي خيانته للماركسية الحدية . لقد أدركت ذلك بعض الأحزاب وتخلت عن صفة الشيوعية لتتخذ اسماً مناسبا لا يدل على خيانتها للنهج الشيوعي مثل اسم "حزب الشعب" الذي يدل بوضوح تام أنه ليس حزب الطبقة العاملة، والشيوعية لم تعد من أهدافه فلا يصمه الشيوعيون بالخيانة .

أما الأحزاب التي ما زالت تكني نفسها بالشيوعية ومع ذلك تطالب بالدولة المدنية وبالديموقراطية الشعبية وبالعدالة الإجتماعية فهي تتمرغ بوحل الخيانة ولا أظنها لا تعلم . الدولة المدنية تنفي نفياً قاطعاً دولة البروليتاريا وتنفي كذلك الاشتراكية كما أكد ذلك كارل ماركس بصورة قاطعة . الشيوعيون الذين يطالبون بالدولة المدنية ليسوا إلا خونة طالما أن الدولة المدنية تنفي نفياً قاطعاً دولة البروليتاريا التي يسعى لإقامتها الشبوعيون .

وماذا تعني الديموقراطية الشعبية ؟ للديموقراطية الشعبية معنىً واحد أحد وهو أن طبقات الإنتاج الثلاث، الرأسماليين والعمال والفلاحين، تتفق فيما بينها على المشاركة في السلطة والثروة بنسب معينة ؛ غير أن هذا العهد لا يقوم إلا بقوة من خارج المجتمع تُلزم الطبقات المتعاهدة تطبيقه حيث الدولة عندئذ هي وليدة المشاركة وليست من أملاها ولذلك هي بحاجة لمن يحميها . أول ظهور لنظام الديموقراطية الشعبية كان في دول أوروبا الشرقية بحماية القوات السوفياتية بعد الحرب إذ إقترح ستالين على هذه الدول التي كانت متخلفة أن تتطور عبر تحالف طبقي قبل أن تصل لعبور الإشتراكية .

ثمة لجوج في فهم الديموقراطية . فالديموقراطية في الجوهر ليست إلا البناء السياسي القادر على حماية نظام الحكم القائم . الديموقراطية البورجوازية تحمي سلطة الرأسماليين في الدولة الرأسمالية ؛ والديموقراطية الإشتراكية تحمي سلطة البروليتاريا غير أن الديموقراطية الشعبية غير قادرة على أن تحمي نفسها وهي سلطة طبقات الإنتاج الثلاث بل تحتاج إلى حماية خارجية . فمن سيحمي الديموقراطية الشعبية التي يطالب بها الحزب الشيوعي العراقي أو المصري أو اللبناني ؟ لن يحميها بالطبع ملالي الشيعة من إيران أو سلاطين العثمانيين من تركيا أو أمراء آل سعود الوهابيون .

 ثم أخيراً كيف يمكن أن تكون الديموقراطية الشعبية هدفاً في البلدان العربية طالما أن الديموقراطية الشعبية هي تحالف بين طبقات الإنتاج الثلاث، العمال والرأسماليين والفلاحين، بينما لا يوجد في البلدان العربية إلا طبقة واحدة هي طبقة البورجوازية الوضيعة للبروليتاريا كما للرأسماليين .

وأخيراً ماذا عن العدالة الإجتماعبة الشائعة اليوم كهدف لجميع الأحزاب اليمينية قبل اليسارية ؟ العدالة الإجتماعية تعني توزيع الثروة على سائر الأفراد في المجتمع بصورة عادلة. لكن أحداً لم يحدد تلك الصورة العادلة؟ كبف يكون العدل في التوزيع ؟ لا يمكن أن نتعرف على العدالة في التوزيع ما لم نعرف مسبقاً أسباب غياب العدالة. تتوزع الحقوق في الثروة الوطنية اليوم تبعاً لقوانين النظام الرأسمالي . تتقابل منتوجات مختلف المنتجين في السوق وهناك تتحدد قيمة كل منتج من هذه المنتوجات وبناء على تدرجات هذه القيم تتوزع الحقوق في الثروة الوطنية . ذلك هو القانون العام لتوزيع الحقوق في الثروة . هناك استثناءات لمعظم القوانين، لكن طالما نحن نبحث في علم الإقتصاد السياسي فلا بد أن نقصر اهتمامنا على القانون العام . توزيع الحقوق بموجب هذا القانون الرأسمالي العام بات محل شجب واستنكار محتلف النحل السياسية كونه يوزع الحقوق بصورة جائرة . حسناً، فلتأتنا هذه النحل بقانون مختلف يوزع الحقوق بالصورة التي يمكن أن يصفوها بالعادلة !! لم تأت هذه النحل بأي قانون لأن علم الإقتصاد مثله مثل سائر العلوم الأخرى لا يتعامل بالأخلاق . كل ما قالته هذه النحل حتى اليوم في تحقيق العدالة في توزيع الحقوق هو أن تقوم الدولة بقدرتها القمعية أن تصادر بعض الحقوق من ذوي الحقوق الكبيرة المترتبة وفق الميكانزما الرأسمالية وتجييرها إلى ذوي الحقوق الصغيرة . يمكن وصف هذه العملية بكل الصفات باستثناء العدالة . ثم ما عساها تكون تلك الدولة التي ستصادر حقوق الأغنياء لصالح الفقراء ؟ هل هي دولة الفقراء ؟ الفقراء هم أفقر من أن يشكلوا دولة . ليس من عدالة في توزيع الحقوق سوى إلغاء الحقوق، كل الحقوق، فالحق هو بحكم طبيعته شخصي بوجوازي دائماً وأبداً .