"ترددت لزمن طويل قبل ان اضع نظريتي قيد التطبيق. كنت اعرف جيدا بأن هناك خطر مميت، ذلك ان اي مادة اذا استعملت بقدر مركز لتغيير الهوية فستصبح مغامرة، حين لاتكون في وقتها المحدد في التنفيذ حتى ولو كانت بكمية قليلة، فهي ستنجح في ابطال مفعول المادة وتلغي ماكان ينبغي تغييره".
هذا مقطع من رسالة الدكتور جيكل الى صديقه لانيون في رواية روبرت ستيفنسون المشهورة " الحالة الغريبة للطبيب جيكل والسيد هايد ". في هذه الرسالة يشرح الطبيب قبل نهايته المأساوية تجاربه الطبية التي ادت الى انفصامه الى شخصين، واحد منهما، صورة للخير والآخر صورة للشر. 
ينطبق هذا، الى حد ما، على الحالة الكردية في العراق في اللحظة المديدة لأستفتاء انفصال كردستان العراق عن البلد الأم: العراق. لكن قبل هذا الأستفتاء الذي تحول الى معضلة وطنية و وجع رأس دولي، ناضل و لعقود طويلة، اكراد العراق ومعهم الكثير من العرب والتركمان، من اليسار خصوصا، من اجل حقوق الأكراد كاملة، بما في ذلك،حقهم في تقرير مصيرهم، و انشاء كيان دولة مستقلة لهم. لم يكن هذا النضال سهلا، فهو في تاريخ قرن كامل، عاما بعام، كان نضالا دمويا دفع الشعب الكردي في العراق ثمنه مآس لا تحصى، شملت القتل والتهجير والأغتصابات للشرف والأرض ومحو القرى وتشويه الهوية. كان اليسار العراقي سباقا في تطوير وصياغة مفهوم الحكم الذاتي وحق تقرير المصير والتثقيف به جماهيريا، اذ كان شعار الحزب الشيوعي العراقي مثلا، " الديمقراطية للعراق والحكم الذاتي لكردستان " قبل ان تقر الفدرالية بنصف قرن. في هذا الخضم الطويل وبشكل يفوق الوصف في فترة حكم القوميين العرب وخصوصا حزب البعث العربي الأشتراكي اتخذ قمع اكراد العراق صيغا تدريجية تبالغ، عقدا بعد عقد، في انواع وكميات الأضطهاد حتى وصلت خلال حكم الرئيس السابق صدام حسين الى صيغة " الحل النهائي للقضية الكردية " على نمط الطريقة النازية في حل المشكلة اليهودية في اوربا ابان الحكم الهتلري لألمانيا في الثلاثينات والأربعينات من القرن المنصرم.لعل الأنفال وحلبجة والأبادة المنظمة للأكراد في معسكرات اأعتقال الصحراوية خير شواهد على ذلك فالقسوة فيها بلغات درجات قصوى من البربرية. من حقنا ان نتحدث عن هولوكست كردي. 
لسنوات طويلة، تقارب القرن، اطلقت الحكومات القومية في العراق على الثوار الأكراد مسميات عدوانية من تسمية الجته في الاربعينات " أي الخارجون عن القانون " الى العصاة في الستينات الى الجيب العميل في السبعينات.خلال سنوات النضال الدامي تحمل الأكراد نكسات وانهيارات عديدة، عسكريا وشعبيا اهمها في نهاية الأربعينات حيث قضي على " تمردهم " وانهزم قادتهم وعلى رأسهم الملا مصطفى البرزاني الى ايران ثم الى الأتحاد السوفيتي. ثم اعقب ذلك الأنهيار الكبير وهروب قادتهم مرة أخرى في اواسط السبعينات اثر اتفاقية الجزائر وتخلى شاه ايران والولايات المتحدة عنهم الى حين، لأنشغال الأخيرة بحرب فيتنام وقضية الشرق الأوسط ونتائج حرب اكتوبر 1973.
لكن القضية الكردية لم ينطفئ جمرها تحت رماد الأنهيارات واستسلام القادة وتحالف الدول المحيطة بهم ضدهم، اضافة لتحالفاتهم غير المستقرة مع الدول الكبرى والصغرى التي لم يحكمها غير منهج براغماتي مضطرب، متقلب من حال الى حال وفقا لأهواء قادتهم الذين لعبوا، خارج حدود المبادئ التحررية والتعاطف المحلي، على التناقضات الأقليمية..تلك حقب سوداء ومرة، عبر عنها بشكل لائق الشاعر العربي العراقي الجواهري في قصيدة طويلة منها " لعبت به سود الليالي حقبة هي شر مالعبت يد الأحقاب ".
شكلت حرب الكويت الكارثية في العام 1991 والأنهيار، هذه المرة، في الجانب الحكومي العراقي فرصة تاريخية للأكراد، من منطلق رب ضارة نافعة. فالهجرة المليونية للشعب الكردي الذي هرب بأجمعه تقريبا خلف الحدود في صدمة " تروماتيزم" الأسلحة الكيمياوية و "لازمة" او شبح حلبجة، دول القضية واشهرها في زمن قياسي امام انظار العالم برمته من خلال نقل مباشر للمأساة، جعل هذه المسيرة اشبه بلحن جنائزي للبشرية كلها. في فترة وجيزة اثر ذلك، ارتاح الأكراد من هيمنة الحكومة المركزية في بغداد وجيشها، بعدما وضعت الدول الكبرى، الولايات المتحدة وبريطانيا خصوصا وبدعم اممي، حواجز خطوط لا يسمح فيها لجيش الدولة المركزية، بأصنافه، تجاوزها. تلك الخطوط كانت حدود كردستان التي صارت اقليما شبه مستقل قبل اقرار الدستور العراقي الذي شارك الأكراد بفعالية في كتابته والتصويت عليه، سنوات بعد ذلك. الدستور الذي اقر الفدرالية فيما يتعلق بكردستان العراق وفق شروط الدولة الواحدة.
لم يستفد الأكراد من احدى عشر سنة في تسعينات القرن الماضي وبداية الأافية الثالثة، من شبه استقلال عن الحكومة المركزية والرعاية الدولية والتعاطف العالمي من خلق واقع اقتصادي واجتماعي وثقافي يليق بالشعب الكردي، بل على العكس انشغلوا في حروب عشائرية – سياسية بين الحزبين الأكبر في اقليمهم من اجل الأستحواذ على عائدات ممر حدودي لا قيمة مادية كبيرة لها، ومن اجل الهيمنة، سلطويا، على هذه القرية او تلك وفي تحالفات قلقة، غير شرعية مع اطراف محلية،وصلت حد تحالف الحزب الديمقراطي الكردستاني مع نظام صدام حسين ضد غريمه الأتحاد الوطني الكردستاني والطلب بغزو كردستان من طرف الحرس الجمهوري لقلب المعادلات العسكرية في الأقليم. "على صعيد شخصي اذكر اني قلت لفؤاد معصوم، القيادي في حزب طالباني ورئيس الجمهورية الحالي، في جلسة في بيته على اطراف لندن، ان حرب الأخوة الأعداء اخجلتنا وجعلتنا غير قادرين على تصور فكرة الدولة الكردية. ابتسم وقال ان السبب بارزاني الذي يشبه صدام. وقبلها بيوم، تماما، قال لي القيادي الكردي في الحزب الديمقراطي الكردستاني المرحوم سامي عبد الرحمن، ان الطالباني مثل صدام يحب السكن في القصور وينهب الأموال." في ذلك يبدو للسامع او القارئ، ان صداما صار مقياسا كرديا لا ينازع؟ كما هو الحال بالنسبة لكثير من الساسة العرب العراقيين.
بنظرة حيادية، جهد الأمكان، نظرة خارج الأنحيازات العاطفية التي تحكم تاريخ العرب والأكراد المشترك، فأن أي من الطرفين لم يبذل، بعد سقوط نظام البعث، جهدا في فهم الآخر واقعيا. القادة الأكراد انشغلوا في تنافس سياسي للهيمنة والوقوف على رأس شركات استثمارية في منظومات الهاتف النقال والنفط والنقل وبيع الخردة، وكسب الرأي العام الكردي عشوائيا من منطلقات قبلية ومناطقية وحساسيات الأقتتال السابق بين الطرفين الرئيسين في الحركة الكردية.كانت السنوات التي اعقبت سقوط النظام السابق تكريسا للمحاصصة بين الأكراد انفسهم قبل ان تكون نظاما للدولة العراقية، نصف بنصف، التي كانت شرطا لوقف الأقتتال في التسعينات في اتفاق دبلن. هكذا عمل البرلمان الكردستاني والمؤسسة الوزارية المحلية وبقية المؤسسات في الأقليم الفدرالي. الهوة الفاصلة بين الحزبين الرئيسين بقيت كما هي: تنافس، توتر،دعايات مضادة وتقسيم فوقي للسلطة تحكمه عائلتين بشكل اساسي، كما لو ان النموذج الصدامي كان مثالا كرديا؟
في الوقت ذاته فأن سياسة الأقليم غير الواضحة والتي اعتمدت بشكل اساسي على اللعب على حبل التناقضات والوضع الهش للحكومات المركزية التي تعاقبت في الحكم منذ سقوط نظام صدام حسين، بلغت حدا انها اصبحت ملاذا لمن يعادي السلطة المركزية أو من " الجحوش " السابقين عربا واكرادا.صار الرأي العام العربي العراقي يعتقد ان الحركة الكردية شريكة في الأرهاب الذي ضرب وما يزال يضرب الأجزاء الأخرى من العراق؟ ويعتقد الكثير من العرب العراقيين ان طموح الأكراد هو اضعاف الدولة المركزية وجيشها الى اقصى حد ممكن وبكل الطرق، كي تتوفر العناصر اللازمة للأنفصال.
في نفس الوقت لم يبذل الأقليم جهدا لتطوير الأقتصاد المحلي، لا زراعة ولا صناعة، بل جيش من الموظفين والمتقاعدين يكاد يفوق جيش الدولة الأتحادية. اما القطاع الأستثماري فقد كان اكثرة اجنبيا " دول الخليج وتركيا خصوصا " وبعض استثمارات الأثرياء الجدد وتخصص في السياحة والمواد الأستهلاكية و و وسائل الأتصال الحديثة. بأختصار اقتصاد طفيلي، فبعد ان كان الشمال العراقي، الى حد ما، ورغم الحروب المستمرة، غلة لبقية العراق، صار يستورد من تركيا ودول أخرى، ماكان يصدره للوسط والجنوب العراقي من منتجات زراعية في عقود سابقة. على صعيد آخر فأن الأقليم دخل في عزلة ثقافية عن بقية اجزاء العراق كرستها سياسة انعزالية متعمدة " تكاد تكون عنصرية "على صعيد مؤسسات الأقليم التربوية والثقافية والسياسية خصوصا واصبحت اللغة العربية مثار تندر بل واحتقار لدى الأجيال الجديدة، رغم انها اللغة التي تعلم بها القادة الأكراد في مؤسسات الدولة العراقية، ومفرداتها تشكل جزءا لا يستهان به من اللهجات الكردية. بل ان هذه العزلة اعتبرت كفتح لأستعادة الهوية الكردية المستلبة.
لكن هذه الأستعادة لم تتم بشروط صحية. فالهوية الكردية، وخصوصا تلك التي يحاول اجتراحها العقل البرزاني للشعب الكردي هي هوية رد فعل، اكثر سذاجة ولا منطقية من تلك الهوية التي ابتكرها القوميون العرب قبل قرن. هذه الهوية ليست وعيا بالذات الكردية المشتتة جغرافيا لكنها في الآن معا مرتبطة بتاريخ مشترك مع الأمم والدول المحاددة، عربية وتركية وفارسية. على العكس من ذلك، سعى سياسيي الأكراد وبعض مثقيفهم الى تجريم الهويات الأخرى المحاددة، وأعتبار شعوبها مسؤولة عما اصاب الأكراد من مآس وانكسارات؟ في هذا النسيان المخيف، والمتعمد عند البعض، لنضال الشعوب المحاددة ضد الديكتاتوريات وتضامنها مع الأكراد في اوقات سابقة، جريمة مزدوجة ضد تاريخ اكثر من شعب، بما فيه الشعب الكردي. في هذا السياق فأن هذا التجريم يشبه، الى حد ما، ماوصفه الكاتب الأسرائيلي يهنوتان غيفن في حديثه عن الهوية الأسرائيلية المستهترة التي تنطلق من عبارة " العالم كله ضدنا " التي حكمت الفكرة الصهيونية وجعلت من الدولة العبرية عقدة عالمية اضرت بالقضية اليهودية وشجعت معاداة السامية.
اليوم، وبسبب غسيل دماغ منظم على مستوى وسائل الأعلام وخطب بعض السياسيين الرنانة، العاطفية اكثر مما ينبغي، تجد العنصرية لها مكانا في قلوب بعض الأكراد. في التاريخ والأمثال الشعبية كان قلب الكردي ابيضا دائما. صار بعض الأكراد ينظرون لجيرانهم في الجغرافية والتاريخ كنوع من الغوييم، أي الآخر غير اليهودي في اللغة العبرية. يكفي الأطلاع على وسائل التواصل الأجتماعي لنضع أ يدينا على قطيعة، على كل المستويات، بين العرب والأكراد ان لم نقل حربا شعواء تجاوزت الأحزمة واخلاقيات اللغة.التاريخ علمنا ان اللغة تسبق السيف وان ما يقطعه السيف لا عودة له. وتلك هي المعضلة القادمة.
عودة على ماكتبه الطبيب جيكل لصديقة في رواية ستفنسن، فان الجرعات اليومية لبلوغ الانفصال اصبحت مغامرة، فهي ليست في وقتها المحدد، فمحليا: الدولة العراقية منشغلة بطرد داعش و اقليميا فأن الدول المجاورة بحاجة الى التهدئة والتقاط انفاسها والقارة الأوربية منشغلة بخروج بريطانيا من الأتحاد الاوربي واستفتاء كاتولونيا، الذي تحاول اوربا الديمقراطية وليست اسبانيا الفدرالية فقط افشاله، زاد من طين اوربا بلة.واستفتاء الأنفصال في كردستان العراق، وان كان جرعة صغيرة، لكنه قد يبطل ما يمكن تغييره الى اجل بعيد..والمقصود الدولة الكردية القادمة.
الواقع الراهن حول حدود كردستان العراق لا يبشر بخير، فقبل الأستفتاء وبعده اشعلت اكثر من نار على اعلام كردستان، وكردستان العراق غير واثقة من مستقبلها ابدا الا في خطب بعض السياسيين وخصوصا مسعود البرزاني.الماضي، في كل ثقافة، هو جذر الحاضر ودرسا للمستقبل. لكن كردستان العراق تعيش هذه الأيام لحظة كأنها لا تنتمي للزمن الشرق اوسطي.هناك جذل يشبه جذل الداخلين الى الجنة، مختلط بتحد وغطرسة ورغبة في الأنتصار، بأي ثمن واي شكل، على القوم وقوميتهم. حالة عاطفية، سكرة، ليس فيها ممنوعات ولا منطق اجتماعي او سياسي او عرفي او تصور للمابعد. هناك جعجعة في كردستان وايضا في بقية العراق، لكن هل وراءها طحين؟ ام جنة حمقى؟