بدأت أولي خطوات عملية النسف هذه عندما اطلق المرشح الجمهوري لرئاسة الولايات المتحدة الأمريكية دونالد ترامب، وعداً صادماً - خلال شهر سبتمبر 2016 - بنقل سفارة الولايات المتحدة من تل ابيب إلي القدس.. وجاءت الخطوة الثانية وبالاً عندما قال ضمن ترحيبه بزيارة رئيس وزراء اسرائيل لأمريكا أنه لا يتمسك بحل الدولتين كأساس للتوصل الي السلام المستهدف بين الطرفين.. وأكد ان حل الدولتين يكون صعباً " بالنسبة لإسرائيل " التى تود ان تبرم اتفاقاً " إذا اعترف الفلسطينيون بهم كـ " دولة لليهود فقط "..

إدارة ترامب تخلت تماماً عن حل الدولتين كإطار للتسوية، ومن ثم لن تفرضه من الآن فصاعداً علي حكومة نتيناهو.. ولكنها ستعمل معه من أجل تحقيق السلام بينه وبين الفلسطينيون..

وهكذا وضعت واشنطن العالم أمام معادلة شديدة التعقيد..

طرفها الأول.. أن الرئيس الأمريكي لن يفرض حلاً " علي إسرائيل " ولكنه يدعو حكومتها اليمينية المتطرفة إلي التوافق مع السلطة الفلسطينية علي إطار عام " للمباحثات " يقود لأقامة سلام بين الطرفين تبقي فيه دولة الاحتلال علي ما تحت يدها من اراضي مستعمرة منذ عام 1967 وتعلن من خلاله أن القدس " التى تم تهويدها " عاصمتها الابدية.. وتضع الضفة الغربية كلها تحت سطوتها الأمنية، كل ذلك شريطة ان يعترف الفلسطينيون أن دولة الإحتلال المقامة علي اراضيهم المغتصبة منذ عام 1948 هي لليهود فقط!! ومن ثم يحق لها ان تطرد الفلسيطينيون الذين يعيشون فوق أراضيها منذ حوالي 70 عام.. وتلغي بجرة قلم حق العودة الذي اقرته الجمعية العامة للأمم المتحدة وأكدت عليه في كافة قراراتها منذ زمن بعيد..

هذا التخطيط الذي يهدف للإطاحة بواحد من أهم أركان إستراتيجية واشنطن منذ سعيها لعقد إتفاق اوسلو عام 1993!! يمثل بكل المقاييس ازدراءاً بالإرادة الدولية التى شكلت الأساس الأقوي لوضع نهاية لقضية إحتلال اراضي الشعب الفلسطينى.. وإنكاراً لكافة القرارات الدولية التى حرصت علي صيانة حقوق الشعب الفلسطيني وتبنتها غالبية عواصم صنع القرار حول العالم..

وطرفها الثاني.. العمل علي وضع سيناريو تستطيع من خلاله الإدارة الأمريكية أن تجمع كل الأطراف المعنية بإقرار السلام كهدف مبدئي ضمن اولويات سياساتها في الشرق الأوسط، لكي يشهدوا علي ما توافق عليه الطرفان الإسرائيلي والفلسطيني.. خاصة وأن الرئيس الأمريكي أكد خلال المؤتمر الصحفي الذي جمع بينه وبين نتنياهو أنه يرغب في ان يكون الرئيس " الذي يحقق هذا السلام المرتجي "..

ازعم ان ضم طرفي المعادلة معا شبه مستحيل.. لماذا؟؟..

أولاً.. لأنه يسقط صفة الإحتلال عن دولة إسرائيل العنصرية، ويصور كفاح الشعب الفلسيطيني من أجل الحرية والاستقلال علي أنه نزاع بين طرفين عليهما أن يتوصلا إلي اطار للإتفاق فيما بينهما لصالح مستقبل كل منهما في المنطقة دون تدخل من أي طرف خارجي..

ثانيا.. لأن موقف إدارة ترامب يكشف عن دعم واضح لسياسات دولة الإحتلال الإستعمارية سواء فيما يتعلق بالبناء علي الأراضي الفلسطينية التى تحتلتها.. وتأييد علني لمخطط إستكمال حكومة نتنياهو الإستيلاء علي ما بقي من أراضي القدس الشرقية التى ستنقل إليها سفارتها..

ثالثاً.. لأنه يقضي تماما علي حق الشعب الفلسطيني في التحرر من قبضة الإستعمار الصهيوني ويفرض عليه ان يرضي يما سيُقدم إليه من فتات أرض وسماوات، ويفرض عليه القبول بما يشبه الكانتونات التى عليه ان يقيم فوقها مُسخ دولته المستقلة التى سترسم دولة الإستعمار حدودها..

رابعا.. يوافق علي ضم الضفة الغربية ووادي الأردن إلي مخطط الهيمنة الإسرائيلية " من أجل الحفاظ علي امن شعبها " علي حساب ليس فقط الشعب الفلسطينيى وأنما عدد من دول الجوار..

هذه النقاط الأربعة وغيرها تسد علي الشعب الفلسطيني كافة منافذ الحل السلمي الذي دأبت الإدارات الأمريكية منذ أكثر من ربع قرن علي الضغط المتواصل من اجل اقناعه بها.. وتدفعه إلي توسيع دائرة العنف والمقاومة المسلحة لكي يحصل علي حقه في الحرية وفي الحياة الكريمة كما يراها هو..

ولأن قوي الشعب الفسطيني مستعدة للتضحية بأرواحها دفاعاً عن حقها في مقاومة ابشع أنواع الاحتلال الجاثم علي صدرها منذ حوالي ثمانية عقود، فليس من المتوقع أن تتوافق قياداته مع الدولة التى تستعمر إراضيه وتحرمه حقه في الحياة الحرة علي ما يساهم في منح إسرائيل حق مواصلة استعماره واستنزاف خيراته ونهب ثرواته والقضاء علي حلم دولته المستقلة..

هذا التضاد بين دولة إسرائيل الإحتلالية العنصرية!! والشعب الفلسطيني المناضل من اجل حريته وكرامته ودولته المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية.. لن يوفر متطلبات الإستقرار والأمن التى تنشدها إدارة ترامب في المنطقة.. وسيُعرض اسرائيل وأمن شعبها للقلاقل الداخلية والخارجية..

هذا التضاد هو الذي جعل مايك بومبيو مدير السي أي إيه الجديد يبادر بزيارة رئيس السلطة الفلسطينية أبو مازن في مقره برام الله ليُبلغه بجدوي التفاهم مع حكومة إسرائيل حول الإطار الذي إقترحه الرئيس ترامب " كأساس " للسلام بينه وبين حكومة نتنياهو..

وهو – أي هذا التضاد – الذي جعل البيان الصادر حول هذا اللقاء، يأتي شديد الغموض – كما هي العادة – حيث وصف بأنه كان " إيجابياً ومثمراً وواضحا وجدياً " دون ان يعكس ولو علي سبيل الإطمئنان..

* ما هي الجوانب الإيجابية التى تبادل الطرفان الرأي حيالها وكيف جاءت مثمرة..

* ما هو الوضوح الذي ظلل بند أو بنود الأجندة التى حضر المسئول الأمريكي من أجلها، خاصة وأنها قدمت إلي الرئيس الفلسطيني علي يد القنصلية الأمريكية قبل قدوم المسئول الكبير إلي مقر المقاطعة..

* ومن ثم، لم نتعرف علي مدي الجدية التى شملت المحادثات..

وبرغم تعليقات كبار المسئولين الفلسطينيين الحادة التى قوبل بها المقترح الذي عرضه الرئيس الامريكي..

1 - كوصف حنان عشرواي عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير له بأنه " غير مسئول ولا يخدم السلام " مؤكدة ان واشنطن لا تملك حق فرض هذا الرأي " دون تقديم البديل "..

و2 - تأكيد صائب عريقات المسئول عن إدارة ملف المفاوضات مع إسرئيل، علي أن تخلي واشنطن عن إستراتيجية حل الدولتين يؤثر سلباً علي المصالح الدولية في الشرق الأوسط و يفقدها نقطة إرتكاز قوية لتحقيق الأمن والإستقرار في المنطقة، لأنه لا يمكن القضاء علي الإرهاب ودون " تجفيف مستنقع الإحتلال وإقامة دولة فلسطين المستقلة "..

في مقابل بعثرة أوراق القضية الفسطينية الفوضوية.. أو إن شئت " المحرقة التى وضعت فيها الإدارة الأمريكية الجديدة كل ملفاتها ".. تطرح وسائل الإعلام الأوربية منذ يوم الإربعاء الماضي – 15 فبراير - سؤال واحد مركب يقول..

كيف سيتواصل الطرفان الفلسطينى والإسرائيلي فيما بينهما – دون طرف ثالث - بهدف تبادل الرأي حول الإطار الذي اقترحه الرئيس الامريكي دونالد ترامب؟؟ وما هي التنازلات الإضافية التي من المفترض أن يقدمها الشعب المحتل للحكومة التى تصر علي مواصلة وحرمانه من حرياته المبدئية ومن حقه في أقامة دولته المستقلة؟؟ وهل ستوافق دولة الإحتلال والعنصرية علي ما سيُقدم إليها، أم ستماطل لعشرات السنين القادمة كما فعلت منذ اتفاق اوسلو وحتى اليوم؟؟..

[email protected]