فيما قبل الثورة الإشتراكية العظمى في روسيا والهزيمة المذلة التي ألحقها البلاشفة بالدول الرأسمالية الكبرى وأذنابها الأربع عشرة وكانت قد أرسلت تسعة عشر جيشا إلى روسيا كي تخنق البواشفية في مهدها فخنقتها البولشفية وفي في المهد، قبل تلك الهزيمة التاريخية كانت العلاقات الدولية يحددها النظام العالمي القائم تبعاً لوسائل الإنتاج السائدة في كل قطر وقطر ومقدار ما تنتجه هذه الوسائل من قيمة بضاعية ؛ بمعنى أنه بمقدار ما تنتج الدولة من قيمة بضاعية بمقدار ما تحتل موقعاً متقدماً في العلاقات الدولية . أما بعد هزيمة الامبريالية العالمية على يد البلاشفة الروس في العام 1921فقد دخل عامل آخر غير القيمة البضاعية للإنتاجفي تحديد أهمية موقع الدولة في النظا العالميألا وهو مقدار مساهمة الدولة في المشاركة بمقاومة الشيوعية، بل إن الدول الإمبريالية ذاتها لم تعد تمارس السياسة الإمبريالية الخالصة بعد أن خصصت جهدها الأعظم لمقاومة الشيوعية وهو ما اقتضاها تلطيف سياساتها الاستغلالية بحق شعوب البلدان التابعة أو حتى الإستغناء عنها بهدف تعظيم قوى مقاومة الشيوعية . فالولايات المتحدة ثلاً كانت تخصص أكثر من 10% من موازنتها العامة في بند المساعدات الخارحية توزعها على الدول الناشطة في مقاومة الشيوعيه، وعلى ذات النهج تنتهج ألمانيا وبريطانيا .

انتهت الحرب العالمية الثانية إلى ما انتهت إليه فكان على القوى الإمبريالية أن تدرك أن سياسة مقاومة الشيوعية قد انتفت نهائياً ولم تعد نهجاً براغماتياً إلا أن الإدارة الأميركية وقد عرفت بالحمق الشديد استنفذت كل مقدراتها القومية خلال ربع قرن 1945 – 1970 في مقاومة الشيوعية فكان أن اقتضتها المقاومة المصيريةالحمقاء نقل نمط الإنتاج الرأسمالي إلى شرق آسيا حيث كان يتلظى لهيب الثورة الشيوعية وهو ما أدى إلى انهيار النظام الرأسمالي فيالولايات المتحدة نفسها وهي حصن الرأسمالية العالمية . انتهى ذلك إلى الأعوام 1971 و 72 و 73 حين تعرض الدولار الأميركي لانهيار مريع وفقد حوالي 30% من قيمته وبات الشعب الأميركي يعيش على استيراد البضائع من الشرق الأسيوي، فقعد عمال أميركا بلا عمل أو تحولوا إلى عمال خدمات بحاجة لمن ينفق عليهم من أجل أن بشتغل عمال شرق آسيا كيلا يصبحوا شيوعيين .

جاءت الأزمة القاتلة للنظام الرأسمالي مع بدايةالسبعينيات وفقد الدولار في السنوات الثلاث الأولى من السيعينيات جزءاً كبيراً من قيمته ومثله فقدت عملات الدول الرأسمالية الكبرى . ولما تحقق زعماء هذه الدول من خطورة الأزمة وأنها لا بد وأن تكون الأزمة القاتلة حيث أنالدول المحيطية لم تعد تستقبل فائض الإنتاج المتحقق في مراكز الرأسمالية، تنادوا إلى أول مؤتمر لهم (G 5) في قلعة رامبوييه في ضواحي باريس وقرروا أن القيمة الرأسمالية تتأصل في نقودهم الصعبة وليس في البضاعة !! وتلك بالطبع هي حجة المفلس حيث أفلس المؤتمرون في أن يعثروا على علاج ناجع للأزمة فما كان لهم من محيص غير الإعلان الخجول عن نعي النظام الرأسمالي فكان الإعلان عن سلخ القيمة من البضاعة لإقحامها قسراً على النقود خلافاً لأول مفاهيم علم الإقتصاد حيث أن التقود بذاتها لا قيمة تبادلية لها وتنحصر قيمتها بالقيمة الإستعمالية كمعاير للقيمة البضاعية، فالنظام الاقتصادي يقوم قصراً على القيمة البضاعية، وكانت قد وصلت هذه الدول الخمسة لأن تكون دولاً كبرى لأنها كانت تنتج البضائع بالجملة وبكميات ضخمة (Mass Production) فكانت الأغنى، أما بعد أن توقفت مضطرة عن إنتاج البضائع فليس لها غير الإحتفاظ بسلطانهاالنقدي الموروث والذي لا يتوفر إلا عن طريق المضاربة في أسواق المال . فما أن يميل الدولار إلى الهبوط في أسواق الصرف إلا ويسارع البنك المركزي في اليابان أو البنك المركزي الأوروبي أو حديثاً البنك المركزى في الصين إلى شراء مليارات الدولارات ليعود الدولار عند سعره السابق قبل الهبوط من خلال استخدام آلية العرض والطلب التي لا أثراً حقيقياً لها على قيمة البضاعة الحقيقية .

كان قرار الخمسة الكبار المخادع بتأصيل القيمة في النقد وليس في البضاعة قد عمّد الدولار الأميركي ملكاً للعملات حيث كتلة الدولار هي الأكبر في العالم والتجارة الأميركية هي الأضخم والأوسع . فإذا ما كانت البضاعة ومنها الذهب هي العامل الحاسم في تشكيل سيادة الدولة وعلاقاتها بالتالي مع الدول الأخرى، فقد غدا الدولار بعد قمة رامبوييه هو البديل عوضاً عن البضاعة والذهب . سيادة الدولة وعلاقاتها مع الدول الأخرى يقررها مقدار ما تحصل الدولة من دولارات سواء عن طريق استبدال البضائع المختلفة بالدولار وهو دائماً استبدال جائر بحق البضاعة أم عن طريق علاقات الدولة الخاصة مع الولايات المتحدة .

أي باحث متقص لِكنْهِ العلاقات الدولية القائمة اليوم ستدهشه المنظومة الدولية التي تنتظم فيها سائر دول العالم دون استثناء كما لم تنتظم من قبل عبر تاريخها الطويل ودون أدنى تناقضات كانت لا تغيب عنها أبداً في السابق، تنتظم دولة إثر أخرى حسب تحصيلها من الدولارات في حلقات مثل حجارة هرم تتراصف في مداميك متوالية تقعد على رأس الهرمالولايات المتحدة صاحبة الدولار الذي حل محل الذهب . كان عصب سيادة الدولة وموقعها بالتالي في المنظومة الدولية هو الإنتاج المادي أو البضاعي للدولة ؛ أما بعد مؤتمر رامبوييه وتقرير الدول الخمسة الأغنى في العالم بتأصيل القيمة (Value) في النقد وليس في البضاعة خلافاً للقانون الأساسي في علم الإقتصاد فقد بات عصب سيادة الدولة، أي دولة، هو مقدار ما تحصله الدولة من دولارات . بالطبع الدولار مكشوفاً من القيمة البضاعية لا قيمة له فالسيادة القائمة على الدولار ليست سيادة حقيقية غير أن الدول الخمسة (G 5) وكانتتمتلك مفاتيح خزائن المال في السبعينياتاستطاعت أن تنقل العالم من عالم الواقع إلى عالم الوهم، عالم الدولار الموهوم حيث تعهدت الدول الأغنى الخمسة بالحفاظ عبى سعر صرف الدولار ولم تتعهد بالحفاظ على قيمته الحقيقية والفرق بائن بين الحالتين .

كنا نحسب أن تعميد الدولار ملكاً على سائر النقود بل وملك القيمة المطلقة في مؤتمر رامبوييه 1975 بعد أن كان قد خسر 30% من قيمته في السنوات الثلاث الأولى من السبعينيات سيجعل من الولايات المتحدة القطب الأوحد في العالم وسيطلق يدها في نهب العالم من خلال طباعة ترليونات الدولارات المكشوفة من كل قيمة ؛ لكننا لم نحتسب أن هذا الأمر لن يدوم طويلاً وسينقلب بالتالي مثلما هو اليوم إلى فخٍ للولايات المتحدة لا فكاك منه قبل الموت الزؤام . العالم إنتظم خلال الربع الأخير من القرن العشرين وحتى اليوم وفقاً لقيمة الدولار – الذي لا قيمة له في الحقيقة – وهو ما يقتضي الولايات المتحدة أن تحرص على توزيع الدولار على مختلف الدول، وهي حجارة الهرم الذي تقعد على رأسه، أو بالأحرى أقعدوها دون طلب منها، توزيع الدولار بالحدود الدنيا التي لا تسمح للنظام العالمي بالانهيار .

لو كانت أزمة الولايات المتحدة ناجمة فقط عن إقلاعها عن إنتاج البضاعة وانكماش طبقتها العاملة من 75 إلى 32 مليوناً وهو ما يؤكد انهيار النظام الرأسالي في حصن الرأسمالية، لو كان ا|لأمر يقف عند هذا الحد فقط لربما ظلت الأزمة أزمة محلية تخص الولايات المتحدة وحدها فقط، لكن وبعد أن قررت الدول الخمسة الغنية تأصيل القيمة في النقد وليس في البضاعة ووظفت كل ما امتلكت من أموال في تأكيد مثل هذا القرار الشائن والمخالف لأبسط القواعد العلمية فقد غدا الدولار ليس ملك العملات على الإطلاق فقط بل هو ملك القيمة المطلقة والمعاير لجميع العملات في العالم بما فيها عملات بعض الدول المعادية للولايات المتحدة أيضاً ومنها الروبل الروسي واليوان الصيني . ولذلك يمكن القول أن العالم بأسرة قد أقلع عن إنتاج البضاعة وهي الإنتاج الوحيد للنظام الرأسمالي وأخذ عوضاً عن ذلك يبذل كل جهوده للحصول على الدولار ملك القيمة ودعامة السيادة المعترف بها دولياً .

أمام النجاح الظاهري في ترسيخ القيمة في الدولار دون البضاعة تبدّى عزوف الأمم عن إنتاج البضاعة والتعويض عن ذلك بالتحايل مختلف الحيل لتحصيل الدولارات . ما يلزم تأكيده هنا هو أن الدولارات التي تحصلها كل دولة ودولة هي أغلى قيمتها التبادلية من قيمة البضاعة إنتاج تلك الدولة المعنية ومن واجب الولايات المتحدة أن تؤمن ذلك الفرق كيلا ينهار الهرم الذي أُقعدت على رأسه ومكنها من معاقبة أي دولة تشذ عن القواعد المعلومة بمنع صرف عملتها بالدولار . وعليه فإن ديون الولايات المتحدة لا تتوقف عند 20 ترليون دولار بل يرجح لأن تصل إلى 60 ترليون . ثمة نذر تنذر الإدارة الأميركية بكارثة لم تعهد البشرية بمثلها من قبل ؛ وما يزيد في مأساة الكارثة هو أن أحداً لا يستطيع أن يخفف شيئاً من هول الكارثة التي ستنزل بالعالم قريباً وليس بالولايات المتحدة وحدها .