ألم أخبركم أن عنترة بن شداد هو كذاب وبياع كلام ؟

هو فعلا كذلك، وإلا كيف يمكن تصديقه وهو يقول لحبيبته وابنة عمه (عبلة) : 

(ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ مني وبيض الهند تقطرمن دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنها .. لمعت كبارق ثغرك المتبسم). 

لا يا شيخ !!

والله هذه (قوية) !!

على أي حال .. الشعراء الكذابون كُثر على مر العصور، تماما مثل ناسجي الأساطير، وكلهم، للعجب، يحظون بالتبجيل والاهتمام وكأن المتلقين يودون العيش في عالم من الأوهام !

هي مرارات الحياة وإحباطاتها التي تفرض الهرولة صوب اللا معقول .

حروب وقتل وإرهاب .. وعالم يضج بإزهاق العدالة ووأد الحق في العيش بأمن وكرامة ..

هذا هو الواقع الذي زاد من تناسل الكذب في الأدب، وهو كذب مقبول حسب فتوى أهل الشعروالنقد، ولكن الواقع أجج أيضا تكاثر الكذب في السياسة والاقتصاد وعالم التجارة والصناعة وغيرها، فاختلط الحابل بالنابل، ولم يعد أحد يعرف إلى أين تسير بنا الدنيا .

أكبر إفرازات اليوم هو تشييعنا للرومانسية . حيث لم يعد لها وجود إلا بحياء وندرة في نتاج البشرية الإبداعي .

بالأمس تذكرت أبياتا للشاعر السوداني الراحل محمد سعد دياب، وهو أحد أبناء المدرسة الرومانسية المتأخرة، إذ يقول بإحدى قصائده: 

وكان هوانا حديث الرواة

سقيناه نبضا وعشناه دارا

نقشنا على كل نجم حروفا

لميعاد حب نقشنا الجدارا

يهش المساء إذا نحن جئنا

وتهفو الدروب تطل انبهارا

ويسألني عنك عشب الطريق

لكم أوحشته خطاك مرارا

صورة لعاطفة متألقة، تتلألأ بين ثناياها روح الرومانسية وعالمها السحري، بمفردة تنساب إلى الدواخل دون استئذان أو انتظار .

لوحة أخرى لا أملّ من تكرارها، رسمها الشاعراللبناني المهجري إلياس فرحات وهو في غربته فكتب لحبيبته قائلا : 

خصلة الشعر التي أهديتنيها

عندما البين دعاني بالنفير

لم أزل أتلو سطور الحب فيها

وسأتلوها إلى اليوم الأخير

ومن المفارقة أن الخصل التي يتم كنسها في صوالين الحلاقة النسائية والرجالية، تحولت عند إلياس إلى وهج إبداعي باهر الضياء، لتتجسم اللقطة الرومانسية حسا دفاقا بالرقة والعذوبة .

ورغم الاحتقان الذي يشهده شرقنا طوال نصف قرن، وبوتيرة تصاعدت عاما بعد آخر، حيث يلعلع الرصاص في الأرجاء، وتفيض دموع المأساة سيلا عرما .. يتسلل الحرف دافئا نديا من نظم المصري فاروق جويدة :

ستعبُر يوما على وجنتيك

نسائمُ كالفجر سَكرى بريئة

فتبدو لعينيك ذكرى هوانا

شموعا على الدرب كانت مضيئة

ويبقى على البعد طيف جميل

تودين في كل يوم مجيئه

إذا كان بعدك عني اختيارا

فإن لقانا وربي مشيئة

لقد كنتِ في القرب أغلى ذنوبي

وكنت على البعد أحلى خطيئة

ولأن جندول العاطفة والجمال يبحر في زمن نستيقظ فيه على دوي الانفجارات وأخبارها، فقد غاب الإحساس بالرومانسية والحب، وانزوت أيام أم كلثوم وعبدالوهاب وأحمد المصطفى وسيد خليفة وطلال مداح وعبدالحليم وإبراهيم العلميوفريد الأطرش ووديع الصافي، وبتنا نتشبث بمن تبقوا على الساحة حاملين عبق الزمن الجميل أمثال عبدالوهاب الدكالي وفيروز ومحمد الأمين ولطفي بوشناق وعبدالكريم الكابلي، وغابت الكلمة الشفيفة .. لتصبح الساحة مملوكة لأناشيد الجهاد المشكوك في أجندته، وطبول الاحتراب المشكوك في غاياته، وأبواق الفتن التي لم تعد نائمة بل مستيقظة تحاصر الأسماع ليل نهار .

ترى هل رحلت الرومانسية ولغة القلب المرهفة عن دنيانا ؟ وهل أصبحت التقنية والتصنيع والركض خلف المال سمة تصبغ حياتنا وحياة كل الأجيال القادمة، أم أن الكلمات العذبة ستظل تثري وجداننا كما فعل قيس بن الملوح وهو يخاطب قلبه:

ألستَ وعدتني يا قلب أني

إذا ما تبتُ عن ليلى تتوبُ

فها أنا تائبٌ عن حب ليلى

فمالك كلما ذُكرَت تذوبُ

تلك تساؤلات لا نملك لها جوابا، فزمان البنادق والنار والفاقة هو الذي يفرض سلطانه الآن، والرومانسية ستظل حلما عزيزا متكررا .. سواء كذبت مفرداتها وشطحت كما فعل عنترة العبسي .. أو صدقت أبياتها كما فعل قيس الذي نزعم صدقه لما أحدثه في وجداننا .. رغم تقادم الأزمان ورحيل الصبا والشباب إلى غياهب اللا عودة .

 

[email protected]