يعتقد الكثيرون أن ملاحقة عناصر تنظيم "داعش" في العراق وسوريا ومناطق أخرى في العالم العربي، وكذا ملاحقة فلول تنظيم "القاعدة" كفيل بانهاء خطر الظاهرة الارهابية، وهذا الأمر ليس صحيحاً في مجمله. فرغم أهمية المواجهة الأمنية لهذين التنظيمين، بل وضرورتها وإلحاحها الشديد، فإنها ليست الوسيلة الوحيدة للقضاء على خطر الارهاب، ولا يجب أن يركن العالم إلى هذه الفكرة.

هناك أمور عدة في الظاهرة الارهابية لا يرغب العالم في الحديث بشأنها ولا مناقشتها، ولكن ماحدث في بريطانيا مؤخراً ربما يعد جرس إنذار يجب الانتباه له، وأن الأمر لا يحتمل مطلقاً الشد والجذب وتصريحات ابراء الذمة، التي تحمل الاسلام والمسلمين مسؤولية الارهاب من دون الغوص في الأسباب الحقيقة لهذا الفيروس اللعين.

صحيح أن التطرف الفكري موجود في مناطق شتى من العالم الإسلامي، وهذه حقيقة ولا يجب إنكارها، ولا دفن الرؤوس في الرمال عند اثارتها، ولكن هذا التطرف لا علاقة لها البتة بتعليمات دينية، فالدين الإسلامي موجود منذ أكثر من 1400 عام، ولم يعاني العالم جراء التطرف والارهاب سوى في العقود والسنوات الأخيرة، ما يستوجب إحكام العقل والاستنتاج بأنه لا علاقة للدين في جوهره بموجة الارهاب الحالية، التي يزعم المتورطون فيها أنهم يدافعون عن الدين الإسلامي بل ويرفعون رايته، وهذا الأمر لا يعني بالتبعية ارتباطهم بالإسلام، فالجريمة الارهابية موجودة في كل العالم ويرتكبها اتباع جميع الأديان السماوية وغير السماوية، ومع ذلك يبقى الإسلام وحدة يواجه تهمة الارتباط بالارهاب!!

ما يعلمه الغرب أن الربط بين الإسلام والارهاب، واتخاذ إجراءات جماعية تستهدف مسلمين يعتبر بمنزلة هدايا مجانية لتنظيمات الارهاب، ويسهل مهمتها في "تسويق" فكرة العداء للإسلام والحرب ضد الدين الإسلامي!! 

الإرهاب له أسباب معقدة هي مزيج من التفسير المتشدد للدين الإسلامي في ظل تراجع المؤسسات الدينية وترك الساحة فارغة لسنوات وعقود لجماعات الارهاب، وهناك أيضاً تراجع الكثير من الدول العربية والإسلامية عن دورها الاجتماعي والتنموي ما سمح بوجود فراغ هائل شغلته جماعات الارهاب وتمددت في قلب المجتمعات العربية والإسلامية ثم وظفت دورها الاجتماعي في الدعاية السياسية والدينية واستقطاب الآلاف بل الملايين لأيديولوجيتها السياسية القائمة على العداء للدولة ونفي وجودها وإحياء فكرة الخلافة والأمة واستدعائهما من التاريخ!

هناك من مغذيات الظاهرة الارهابية أيضاً مسألتان حيويتان إحداهما ترتبط بالعالم العربي والاسلامي والأخرى بالغرب، فالتخلف التنموي وتفشي ممارسات الفساد وارتفاع معدلات البطالة وانهيار الأنظمة التعليمية والصحية والاجتماعية في دول عربية وإسلامية شتى تسبب في انتشار هائل للفكر الارهابي بين الشباب، وبموازاة ذلك نجد التهميش والاقصاء والاخفاق في سياسات الدمج والإحتواء المجتمعي، والسماح بتمدد التيارات اليمينية العنصرية المتطرفة وارتفاع صوت العداء للإسلام في الغرب، فتح ذلك كله ثغرات في جدار الاستقرار الاجتماعي في المجتمعات الغربية وتسبب في تغلغل الفكر المتطرف ونشر الحقد والتحريض، لاسيما أن دول غربية عدة سمحت بتواجد تنظيمات الارهاب على أراضيها بزعم الحريات وحقوق الانسان، وأنهم ملاحقون في بلادهم، رغم أن الهدف الحقيقي لذلك كان امتلاك أوراق قوية يمكن توظيفها سياسياً في الضغط على بعض الأنظمة العربية من أجل تحقيق أهداف معينة!!

هناك أيضاً أسباب جيواستراتيجية لا يمكن فصلها عن الظاهرة الارهابية، وفي مقدمتها الصراعات الدولية والاقليمية التي لعبت الدور الأبرز خلال مراحل تاريخية سابقة في رعاية الفكر الأيديولوجي بل والإشراف عليه وتزويده بالسلاح، مثلما حدث إبان حقبة الغزو السوفيتي لأفغانستان، حين لجأت الولايات المتحدة إلى الدفع بحشود الجهاديين من أجل التصدي للجيوش السوفيتية الغازية لأفغانستان وقتذاك!

هناك أيضاً أسباب تتعلق بوجود قضايا احتلال عالقة لم تشهد حراكاً منذ عقود طويلة مضت رغم تصفية الحقبة الاستعمارية في العالم أجمع، فلا يزال الاحتلال الاسرائيلي للأراضي الفلسطينية إحدة القضايا العربية الرئيسية، التي توظفها تنظيمات الارهاب في التجنيد والاستقطاب رغم أن هذه التنظيمات لم تعلن، مجرد نية للعمل ضد إسرائيل!!

ما حدث في بريطانيا مؤخراً، مؤشر خطر يجب الوقوف عنده ملياً، فالمتورط في الجريمة الارهابية ولد في بريطانيا، وسبق أن خضع لتحقيقات لا علاقة لها بالارهاب، وأكدت رئيسة الوزراء البريطانية أنه لم تكن لدى أجهزة الأمن البريطانية أي معلومات استخباراتية عن اعتزام هذا الشخص تنفيذ هجوم إرهابي، فهو مجرد تقليدي بالنسبة لها، ولا علاقة له بالارهاب، وكان ينظر اليه على أنه "شخصية هامشية"، ولهذا لم يتم اعتقاله.

تنظيم "داعش" تبنى الهجوم في بيان نشره موقع "أعماق"، المرتبط بالتنظيم، الأمر الذي يثير تساؤلات حقيقية حول حقيقة ارتباط عنصر إجرامي تقليدي بتنظيم ارهابي متطرف، وهل نشأ نوع من التحالف بين الجريمة التقليدية وتنظيمات الارهاب؟ أم أن هذه التنظيمات باتت تلجأ لعناصر إجرامية تقليدية سواء من أجل تجنيدها فكرياً، أو الاكتفاء بتوظيفها من أجل ارتكاب جرائم لمصلحة التنظيم مقابل مبالغ مالية بحكم أن هذه العناصر غير مدرجة على قوائم الاشتباه والرصد والمراقبة الأمنية في مختلف الدول.

يقول الباحثون المتخصصون أن التهميش هو الخطر الأكبر في المجتمعات الغربية، فهو الثغرة التي تنفذ منها تنظيمات الارهاب، لإقناع المهمشون بأن المجتمع الحر الذي يعيشون فيه يمارس التمييز ضدهم بسبب الدين أو العرق، وأغلبية المتطرفين يأتون في الغرب من شريحة المحبطين المهمشين الساخطين على المجتمع بحسب ما توصلت إليه دراسات عدة.

المشكلة في الغرب ربما تبدو لي أعمق من العالم الإسلامي، فوجود نحو خمسة ملايين مسلم على سبيل المثال في بريطانيا مسألة تتطلب وجود رؤية استراتيجية دقيقة تفصل بمشرط الجراح الماهر بين الإسلام والارهاب، كي لا يسقط المزيد في فخ الدعاية الارهابية في هذا البلد، وبالدرجة ذاتها يجب تشجيع الاعتدال والتعاون مع الدول الإسلامية المعتدلة من أجل كشف حقيقة بعض الجماعات والتنظيمات المحسوبة على الإسلام في الغرب.

الإرهاب أخطر من ظاهرة مكانية، فهو ظاهرة معقدة تتطلب حكمة ووعي يجنب العالم أجمع شرورها، بدلاً مما يحدث من استنفار ضد الإسلام والمسلمين بشكل عام.

• باحث متخصص في العلاقات الدولية ودراسات التطرف والارهاب