تقول الأدبيات السياسية أن الدبلوماسية هي الوجه الآخر للحرب، أو هي الحوار بلغة أخرى، لغة السلاح، ولكن هذه الرؤى باتت متقادمة في ظل التطور الحاصل في العلاقات الدولية، وبروز مفاهيم حديثة للقوة ذاتها، فلم تعد القوة هي القوة العسكرية التقليدية في عصر حروب الجيل الرابع والخامس، بل هناك أدوات أخرى لفرض السيطرة والهيمنة وتحقيق الأهداف السيطرة بأدوات وآليات أخرى.

لم تغب القوة بمفهومها التقليدي عن نقاشات الباحثين والخبراء والمتخصصين، بل ظهرت مفاهيم مغايرة لها، منها القوة الناعمة، وهو المفهوم الذي صاغه المفكر الأمريكي جوزيف ناي، قاصداُ تحقيق الأهداف الاستراتيجية من دون اللجوء للقوة العسكرية التقليدية، ولكن عبر أدوات ثقافية وسياسية ... ألخ، وقد تناول ناي هذا المفهوم باستضافة في كتابه الشهير "القوة الناعمة... معاني النجاح في السياسة الدولية"، وحددها بقوله "القدرة على الاستقطاب والاقناع" وهي عكس القوة الخشنة التي تعتمد على الإجبار والإكراه. وقد نبه جوزيف ناي الأمريكيين إلى أهمية القوة الناعمة في استمرار السيطرة على العالم، واعتبر أنها يمكن ان تحقق الأهداف ذاتها باستخدام القوة الناعمة.

وللموضوعية فإن ناي لم يكن يقصد بالقوة الناعمة حروب الجيل الرابع والأجيال التالية له، بل قصد بها "قوة النموذج"، بمعنى النموذج القيمي والثقافي، أو ثقافة "المكدلة" و "الكوكلة" التي تضمن استمرار انبهار العالم بالنموذج الأمريكي ومحاولة الاحتذاء به، ومن ثم مسايرة أهداف الولايات المتحدة والاقتداء بها، أي إجبار الآخرين على تحقيق أهدافك من دون حروب، ومن دون القوة

الخشنة، فهي قوة المعلومات والأفكار وقوة العولمة والسلع والخدمات والمكاسب والأرباح!!

لا يؤمن ناي بأسلوب القوة الخشنة، ويرى أنه عفا عليه الزمن، فالقوة الرمزية باتت تحقق نفس الأهداف، وفي ذلك قال ناي "لقد أضحى من الصعب، في العالم المعاصر، استخدام العصا، إذ القوة العسكرية أصبحت -على الرغم من ضرورتها كسياسة ردع وإكراه- صعبة جدا، وأصبحت الحرب أمرا جد مكلف من الناحية المادية"، وأن أوزن الدول وأثقالها الاستراتيجية لم تعد تحسب بموارد القوة العسكرية بل بقوتها الناعمة، واستند أنصار هذه المدرسة إلى فترة الحقبة الباردة، التي انتهت بانهيار وتفكك الاتحاد السوفيتي السابق من خلال أساليب القوة الناعمة، بعد استحالة استخدام القوة الخشنة لامتلاك القوتين المتنافستين وقتذاك قوة نووية كاسحة كفيلة بدمار شامل في حال تم اللجوء إليها.

في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، تفاعلت مراكز الدراسات الأمريكية مع طروحات جوزيف ناي، وتحدث معهد "بروكينجز" الشهير عن نهاية حقبة عسكرية السياسة الخارجية الأمريكية، ثم تبلور مفهوم "القوة الذكية" أي المزيج من القوتين الناعمة والخشنة، وقد تبنت إدارة الرئيس السابق أوباما هذه الطروحات وحاولت تطبيقها، ولكن النتيجة لم تكن على المستوى المطلوب، فقد تراجعت مكانة الولايات المتحدة عالمياً، ربما لأن أوباما قد أخفق فعلياً في توظيف الجزء الثاني من مفهوم "القوة الذكية" أي التلويح بالقوة الخشنة، فالعالم الذي اعتاد عشرون قروناً من الصراعات العسكرية لم يكن من السهل عليه التحول بشكل مفاجئ إلى "القوة الناعمة".

والثقافة وقوة النموذج ليست كافية لإقناع دول مارقة مثل إيران وكوريا الشمالية للتخلي عن نهجها العنيف في العلاقات الدولية، كما لم يكن من السهل إقناع أنظمة تستخدم القوة العسكرية ضد شعوبها في الاستماع

لصوت العقل، وهكذا وقعت مذابح وانتهك القانون الدولي باستخدام أسلحة كيماوية، ولم تحرك الولايات المتحدة ساكناً، واكتفت بالحديث عن خطوط حمراء، وفشلت هذه الخطوط لأنها اختبرت واخترقت بالفعل ولم تجد رداً من إدارة أوباما!!

ماحدث بعد ذلك أن الدراسات والبحوث بل والخطط والاستراتيجيات التي انطلقت من هذه النظريات والطروحات، وأنتجت سياسات خفض نفقات التسلح الأمريكية وغير ذلك، قد شهدت تغيرات ملحوظة مع تصويت الأمريكيين للرئيس ترامب، بما يمثله من نهج مغاير تماماً لإدارة أوباما.

ما دفعني لمناقشة هذا الموضوع هنا، تصريح مهم ولافت ورد على لسان مايك بينس نائب الرئيس الأمريكي خلال اجتماعه مؤخراً مع رئيس الوزراء الياباني شينزو آبي، حيث أكد أن واشنطن وطوكيو تسعيان إلى إيجاد تسوية سلمية للوضع في المنطقة، لكنه أضاف أن "السلام يتحقق بالقوة"، ما يعني أننا بصدد توجه جديد في السياسة الخارجية الأمريكية، ولكن من المبكر القول إنه استراتيجية جديدة، فتصريحات نائب الرئيس الأمريكي لم تختبر بعد، لاسيما أن قال إن صبر بلاده الاستراتيجي حيال كوريا الشمالية "قد نفذ"، ولكن الحقيقة أن الحرب التي توقعها البعض الأسبوع الماضي لم تقع.

تصريحات بينس خطاب جديد في التعامل مع كوريا الشمالية، ويوحي بأن هناك قناعة أمريكية قديمة/ جديدة بأن السلام يمكن أن يتحقق بالقوة، والولايات المتحدة تدرك ما يرتبط بهذا الحديث جيداً، وعلينا أن نراجع تاريخها إبان حقبة الحرب الباردة وأزمة الصواريخ الكوبية لندرك أن إدارة ترامب تستدعي مرحلة مهمة في التاريخ الأمريكي من أجل ترميم صورة الولايات المتحدة واستعادة هيبتها عالمياً.

ما يدفعني للقول إنها ملامح جديدة للسياسة الخارجية الأمريكية وليست استراتيجية جديدة، أن التقارير الإعلامية الأمريكية قد أكدت أن حاملة الطائرات الأمريكية والسفن الحربية التي قيل إنها أبحرت باتجاه كوريا الشمالية، لم تبحر في هذا الاتجاه في حقيقة الأمر، ولكنها ذهبت في اتجاه معاكس، ولكن لأن العالم في معظمه مستهلك جيد للإعلام الأمريكي، فقد صدق الجميع قوب وقوع صدام نووي على خلفية هذا الخطوة المزعومة!!

ما يبدو حتى الآن، أن إدارة ترامب تصرفت بدهاء، ونفذت خطة خداع استراتيجي محكمة، لتخويف كوريا الشمالية، وهذا ماحدث بالفعل!! وما يميز إدارة ترامب حتى الآن في استخدامها للقوة الأمريكية أنها تتحرك وفق مسارات غير متوقعة، وتفتح لنفسها كل الخيارات، ولا تقيد نفسها بخيوط حمراء كما فعل أوباما، لذا فإن من الصعب توقع تصرفاتها، خصوصاً بعد ضربة "التوماهوك" ضد قاعدة "الشعيرات" السورية، وهذا يعني ببساطة أن ترامب يجيد توظيف أدوات القوة الخشنة ولكنه لم يصل بعد إلى حد التهور في استخدامها، وبالتالي فهو لم يخرج عملياً عن جوهر استراتيجية القوة الذكية، بل ينفذها كما وردت في كتب المنظرين!!

ترامب ليس متهوراً كما يعتقد بعض المحللين، بل يمتلك مهارات رجل الأعمال الذكي، يلوح ولا يتهور، وقد اعتاد طيلة حياته أن يتعايش مع صراعات عالم المال والأعمال، وهو الأشد شراسة من عالم السياسة، وبالتالي فهو يجيد التعامل مع المتهورين، ولكنه لا يسقط في حبالهم وأفخاخهم، بل اعتاد جني المليارات من قرارات صائبة ربما تبدأ بالتهديد والوعيد!!

يجيد ترامب استخدام الإعلام ولغة الخطاب الإعلامي بذكاء غير مسبوق، فعلى سبيل المثال، وجه مؤخراً بمراجعة الاتفاق النووي مع إيران، واعتقد الكثيرون أنها خطوة

تمهد لضرب إيران!! ولكن الحقيقة أن هذه المراجعة قانونية وتنفذ بالفعل كل 90 يوماً، وهي أول مراجعة في عهد إدارة ترامب، ولا جديد فيها، ولكنه يسعى إلى توظيفها إعلامياً، وهذا هو الفرق الأهم حتى الآن بين ترامب وإدارة أوباماً: الخطاب السياسي والإعلامي الذي تخلى عن المرونة والسيولة وانتقل إلى مربع الصرامة والتهديد والتلويح بالقوة صراحة أو ضمناً!!