الذاكرة العربية، عموما، ليست معاصرة. انها ماضوية اكثر منها حاضرة. الأمر ذاته يتعلق بالشعوب كما يتعلق بالسلطات. المخفي والمنسي كثير في هذا الذاكرة الطويلة، والتي هي تراكم ذاكرات شعوب بائدة واخرى راشدة. نحن نتذكر الماضي البعيد، الموغل في القدم والأسطوري اكثر مما نتذكر وقائع قريبة مازال ابطال مسرحها في الحياة، شهود صمت غالبا. نتذكر يوميات الزير سالم وهجرة بني هلال ومعارك فتح واحتلالات لكننا ننسى وقائع مهمة شكلت" عقلية " مازالت حتى اليوم حاضرة وفاعلة في ثقافتنا وطريقة تفكيرنا. قليل من يذكر مقتل مالك بن نويرة بالطريقة البربرية التي تم فيها القتل، والأقل من يذكر جريمة مقتل وضاح اليمن في قصر الخلافة المرواني. في المناهج المدرسية التاريخية لم ندرس غير انتصارات باهرة، نادرة على اهل البلاد المفتوحة. صلب الشاعر الصوفي الحلاج في بغداد وحرقه وصلب والأفشين قائد جيوش المعتصم وتقطيعه امر لا يعرفه الا اهل الأختصاص. لكن الجميع يتباهى بالقصص الخيالية لهارون الرشيد وما قبله من قصص خيالية لأبطال ذاكرتنا العربية،

الأمس القريب نسيناه : نسينا وقائع النكبة في فلسطين وكل عام تمر ذكراها مرور الكرام. نسينا نكسة حزيران التي تتقدم في طريق النسيان. نسينا حرب الخليج وذكراها. لكننا كل يوم نتذكر مقتل عثمان والحسين فنزيد من طين ذاكرتنا بلة. عكس اوربا، نحن، فالقارة الاوربية تحتفل بذكرى من تاريخها المعاصر كل يوم. تنعش ذاكرتها الحاضرة بالمؤلم في تاريخها من حروب وابادات ومعسكرات اعتقال وغولاج وقتال اهلي. ايضا تحتفل بما هو باهر في تاريخها الحديث. بالأمس ذكر الرئيس الفرنسي الجديد بلاده بأهمية اوربا الموحدة اليوم. درس للكبار والصغار. كل عام تحتفل بلدان اوربا عديدة بذكرى الحرب الأولى والثانية وتحرير معسكرات الأعتقال وترحيل يهود هذا البلد او ذاك الى المحرقة النازية.

اوربا لاتنسى ونحن جعلنا من النسيان طبيعة ثانية لنا.

في كانون الثاني " يناير "من العام الماضي 2016 قتل الشاب، الباحث الايطالي جوليو ريجيني في مصر.الباحث الذي كان يدرس الحركة النقابية في مصر بمنحة من جامعة بريطانية. اختطف وعذب وقتل ورميت جثته على الطريق الصحراوي بين القاهرة والأسكندرية مازالت الحقيقة التي تتعلق بهذه المقتلة غامضة بسبب غموض التصريحات القضائية المصرية في هذا الشأن وتناقضاتها. تركت التحليلات للشارع المصري الذي صار يطلق اشاعات حسب المزاج الديني والقومي والوطني.شكلت هذه الجريمة ضربة فأس قاسية للعلاقات المصرية الأيطالية بحجم اقوى من طرد الأيطاليين من مصر في اعقاب حرب السويس، حيث اجبر على الرحيل الوف الأيطاليين الذين كانوا يعيشون مصر منذ عقود وبعضهم من اكثر من قرن وشكلوا جزءا من النسيج الأجتماعي المصري، وكانت الأسكندرية مدينتهم حالها حال باري او نابولي،

علاقات مصر وايطاليا قديمة قدم زواج كليوباترا بيوليوس قيصر. كانت مصر غلة الأمبراطورية الرومانية وانقطاع القمح عن روما لخمس شهور اثار حربا بحرية واحتلالا لمصر في القرن الأول قبل الميلاد. لكن االيوم وبعد تعثر التحقيقات في جريمة مقتل ريجيني وغموض الأسباب والدوافع واخفاء معلومات وعدم دقة تصريحات الجهات القضائية المصرية ارتبكت العلاقات المصرية مع ايطاليا، التي طالبت المشاركة في التحقيق بضغط من الرأي العام الأيطالي وعائلة القتيل. حينها، مثالا وكما يحدث في مجتمعات ديمقراطية، قطعت وزيرة التجارة الايطالية زيارتها لمصر والغت التوقيع على اتفاقيات تجارية بين البلدين. لحظتها صارت قضية مقتل الشاب جوليو ريجيني قضية وطنية في ايطاليا. تأسست جمعيات للدفاع عن المغدور في عدد من المدن وارتفعت آلاف اللافتات على المباني الحكومية والأهلية وشرفات الشقق تطالب " الحقيقة في مقتل ريجيني " وبين حين وآخر تنطلق مظاهرات كبيرة تحث الحكومة على الضغط على الحكومة المصرية لمعرفة الحقيقة التي اصبحت جوهر الموضوع. نضال يومي ضد النسيان.

في المقابل ارتفعت حمى عداء للمصرين العاملين في ايطاليا وهم بعشرات الألوف " يعتبرون من افضل صانعي البيتزا في المطاعم الأيطالية ". نوع من فوبيا ضد المصريين انتشر في كل الأجواء والطبقات الأجتماعية. شخصيا كنت شاهدا على هذا بحكم سفري الدائم لهذه البلاد انطلاقا من عملي. هذه الفوبيا، للأسف، طالت حتى عشاق حضارة وادي النيل الذين اعتادوا على زيارة مصر كل عام. في مكاتب السفر لا اقبال على السياحة في الأقصر او القاهرة او الأسكندرية " موطن حنين الكثير من العوائل الأيطالية " او سواحل البحر التي يعشق الايطاليون ثراء مرجانها والوان اسماكها النادرة. الكثير من الشركات تخشى التعامل مع مصر اليوم. ربما لوقت قصير بسبب الرأي العام. لكن ايطاليا، التي عرف عنها استقبال لاجيئ البحر المتوسط والتي يقصدها الأجانب عموما لسهولة حصولهم على الأقامة، وربما للمرة الأولى، صارت تتعامل مع المصريين بفضاضة، وهي البلد الأقل عنصرية في اوربا والأكثر حماسا للمشاركة المتوسطية بين جنوب وشمال المتوسط. في هذه الأيام اصبح صعبا الدفاع عن مصر في الأوساط الأيطالية

، حتى بين الفئات الأجتماعية الداعية للشراكة المتوسطية، وتلك تجربتي خلال علاقاتي مع المثقفين الايطاليين الأكثر حماسا للقضايا العربية من المستعربين وغير المستعربين.

على صعيد آخر فأن مصر مهددة اليوم بأقتصادها اكثر من أي عصب آخر في بلاد تواجه اخطارا على نيلها، عصبها الأساسي تاريخيا، وفي سياحتها التي نكبت خلال السنوات الأخيرة وفي سمعتها في بلد كان دائما صديقا معتدلا، اكثر فهما لمشكلاتنا العربية من بقية بلدان اوربا،

اخيرا لابد من وضع نهاية مشرفة لقضية مقتل الباحث الشاب جوليو ريجيني، خدمة لمصر و لشرف القضاء المصري المهدور في بلاد الرومان. الحقيقة من اجل ريجيني، شعار سيبقى عند الأيطايين حتى معرفة الحقيقة ليتم الحداد على من يعتبره الأيطاليون شهيدا.