أدْركَ الرئيس الأميركي دونالد ترمب أنّه لا بدّ من " الرياض " وإن طال السفر، شدّ رِحَاله إلى العاصمة السعوديّة في أوّل إطلالة خارجيّة له مُدشّناً بذلك عودة كانت مُنتظرة للولايات المتحدة الأميركيّة إلى دهاليز الشرق الأوسط تعويضاً عن تردّدها و إنكفائها لسنوات مَضت، ما أفسح المجال أمام إيران وميليشياتها المسلّحة بالتغلغل لضرب النسيج الوطني وتهديد وِحـدة وأمن وإستقرار دول المنطقة، إثْر هذا الغياب أطلّت رؤوس ثعابين الإرهاب من جحورها ثم تمدّدت وإنفلتت على خارطة العالم تبحث لها كل يوم عن ضحايا جُدد. 

بتوقيت سياسي محسوب، حطّت طائرة الرئاسة الأميركيّة في مطار الملك خالد في الرياض، ثلاثة قمم إستثنائيّة خلال 48 ساعة جمعت الرئيس ترمب بقادة أكثر من خمسين دولة تمثّل العالمين العربي والإسلامي، لقاءاتٌ رَسمت بمُجملها ملامح "لحظة فارقة "، لحظة أراد صانعوها أن تكون محطة عبور من مرحلة الفوضى والإرهاب إلى مرحلة الإستقرار والأمن والسلام، بدى في جُعبة قمم الرياض حُزمة إشارات ورسائل، وحدّدت بوضوح معالم وعناوين المرحلة القادمة. 
تحديات كبرى تلِي هذا الإجتماع السياسي الكبير، فمكافحة الإرهاب من جذوره، وعودة الإستقرار، والنجاح في تحقيق قفزات تنمويّة، ودعم قيم الإنفتاح والتسامح ونبذ العنف وتمكين المرأة وحوار الحضارات وصولاً إلى تحقيق سلام عادل وشامل بين شعوب ودول المنطقة، عناوين كبرى تَعوزُها جهود هائلة لكنها غير مستحيلة في ظل إرادة مدفوعة برغبة الأطراف المعنيّة على إحداث فجوة في جدار الأزمات الراهنة وصولاً إلى وقائع جديدة تخدم كل القوى الباحثة عن الرّخاء و الأمن والسلام. 

لقد تمخّض " الربيع العربي " فولد مِسخاً، سبع سنوات عجاف مرّت على الشرق الأوسط، فَضحت الكثير من المَسكوت عنه على مستوى المجتمع والإقتصاد والسياسة، كشفت كرتونيّة بعض التّوليفات وهشاشة بعض التركيبات ودمويّة بعض التنظيمات، سنوات دفعت المنطقة برمتها إلى هوّة المحظورات، حتى إستفاقت الشعوب على وقائع قاسية، حروب على إمتداد الخرائط، دولٌ ضعيفة تدوس على هيبتها ميليشيات طائفيّة منفلتة من كل عِقال، إرهاب متنقّل، أمنٌ مُغيّب، إستقرار مفقود، تنمية مُعلّقة على بساط آمالٍ بعيدة، معدّلات بطالة مُرعبة، إنكماش غير مسبوق في فرص العمل، إقتصادات متحوّلة من خدمة الشعوب إلى خدمة الحروب في ظل هروب رأس المال المُقنن وإستبداله برأس مال التهريب وسائر الممنوعات وحدّث ولا حرج!. 

إن ديناميّة التحوّل الذي إنطلق مع قمم الرياض تأتي في أعقاب مرحلة سوداء عمّت المنطقة، بعد أن وصلت فيها المشاريع التخريبيّة إلى حائط مسدود وباتت هي نفسها تبحث عن تسوية أو طوق نجاة، يجري هذا بالتزامن مع وجود إدارة أميركيّة جمهوريّة جديدة أكثر فعاليّة وقوّة على إتخاذ قرارات كبرى من شأنها أن تعيد رسم حدود نفوذ سائر القوى المحليّة والإقليميّة والدوليّة وتفتح الباب أمام فرص عقد صفقات تاريخية بين الأطراف المعنيّة. 

يتضّح من مراقبة الوضع الراهن أن هناك ثلاثة معطيات سياسيّة إستراتيجيّة على الأقل تُشكل نقطة تقاطع لحلفاء الولايات المتحدة الأميركيّة في المنطقة وتعتبر أساساً يشجّع على إستثمارها لـتحقيق إختراق نوعي في مسار الأحداث لصالح الإستقرار البعيد المدى في الشرق الأوسط. 
أولاً : السقوط المدوّي لورقة الإسلام السياسي لا سيّما بعد فشل تجربة الإخوان المسلمين في مصر، ولعلّ هذا المتغيّر بالذات هو ما دعى منظمة حماس إلى إعادة نظر معمّقة بسياساتها العامّة بعدما آلت الأمور إلى غير صالحها، فقد حرصت على إضفاء مظاهر إحتفاليّة على إعلان وثيقتها السياسيّة المعدّلة والتي توافق بموجبها على مشروع قيام دولة فلسطينيّة وفق حدود الرابع من حزيران عام 1967، وقد أعتُبر هذا الإتجاه _ بشكل ما _ بمثابة تقديم أوراق إعتماد للمجتمع الدولي والمحيط الإقليمي لتخفيف الضغط على هذه المنظّمة والعمل على إستيعابها بما تمثّل من إتجاه وثقل شعبي فلسطيني بات مستعداً على الأرجح للدخول - كطرف - في عمليّة تسوية محتملة للصراع الفلسطيني – الإسرائيلي. 

ثانياً: إعادة إنتخاب حسن روحاني لرئاسة إيران الذي إعتُبر بذاته إشارة مُعلنة عن نيّة إيران بالإستمرار في التفاوض مع الغرب وحاجتها إلى تسوية مرحليّة تفكّ من خلالها عزلتها الدوليّة وربّما تفسح في المجال أمام عمليّة إحلال وتبدّل في القوى من داخل النظام الإيراني نفسه. 
ثالثاً : تشرذم قوى التنظيمات الإرهابيّة وتراجع نفوذها وتناحرها فيما بينها، ما يعزز قدرة التحالف الدولي على محاصرتها وتحجيمها والحد من تأثيرها على الدول والمجتمعات. 

تنشغل دوائر السياسة العالميّة حالياً بقراءة ما صدر عن الرئيس ترامب في زيارته لكل من السعودية وإسرائيل والأراضي الفلسطينيّة، فقد أشار بوضوح إلى دور إيران السلبي وضرورة أن تتوقف عن تهديد إستقرار عدة دول في المنطقة ودعم تسليح ميليشيات تابعة لها كحزب الله والحوثيين، وشدّد على أنه طلب من قيادات المنطقة العربية المشاركة في صنع السلام، وحثِّ شعوب الشرق الأوسط على إيجاد تفاهمات متبادلة، موضحاً أن التغييرات تأتي من الداخل، وتتحدّث مصادر _ في هذا السياق _ عن عزم مشترك أميركي سعودي للدعوة إلى مؤتمر دولي للسلام في واشنطن خلال سبتمبر القادم يليه تحديد موعد لإستئناف مفاوضات السلام الفلسطينيّة_الإسرائيليّة. 

تجارب المنطقة تستدعي ضبط منسوب التفاؤل وتوخّي الحذر ومواصلة مسيرة العمل على مراكمة الإنجازات وتقارب الشعوب، ولن يعدم المتضررون وسيلة لمواصلة التدمير وبث الفتن بالمقابل، وإنّ النجاح التدريجي للتحالف الأميركي – العربي القديم الجديد، ومَهمّة تقليم أضافر إيران وميليشياتها الطائفيّة ومكافحة الإرهاب من جذوره بكل ما يستلزمه من نبذ للعنف والحد من خطاب الكراهيّة، هي مسؤوليّات مشتركة على كل الأطراف، والسّير قدماً في إيجاد الحلول السلميّة لأزمات سوريا والعراق واليمن، وقبول مساعي الإدارة الأميركيّة الجديدة في إطلاق قطار المفاوضات وتهيئة الظروف لحل الصراع التاريخي ستكون _ إن تحققت _ إرهاصات تُنبيء بإكتمال ظروف عقد صفقة سلام كبرى بين العرب وإسرائيل، فهل يفعلها ترمب؟! 
حتّذاك، رُصد غياب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن رادار الأحداث في الأيام الماضية، أين القيصر؟