بعيداً عن الرياض، ولما كان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يتمايل الى جانب العاهل السعودي الملك سلمان في رقصة العرضة وحولهما رجال البلاط، لم تعد الموصل موصلا، كانت تغمض عينيها على صور الضحايا وبقايا أرواح تتمايل بهم قوارب لانتشالهم من ايمن مدينة تفوح منه رائحة الموت الى ايسر مختنق بالاسى وهم يتشبثون بالحياة وبجنودٍ يواصلون انقاذ ما تبقى من شواهد حاضرة استمدت اسمها من زمان الوصل.

وبعيدا عن الموصل، في بغداد، كان ثمة من يراقب الرياض، فريقان منقسمان بلسانين احدهما إيراني والأخر سعودي، لم ينصت الاثنان على ما يبدو ولم يتوقفا عند عبارة ترامب بان العراق مهد الحضارة العالمية بل انفعل احدهما منتشيا عندما فاجئ ترامب العالم بإعلان فتح مركز لمكافحة التطرف في الرياض.

فيما انفعل الاخر غاضبا حين قرن ترامب بين داعش وحزب الله وزاد عليهما حماس ليكمل خلطة الإسلام الراديكالي بوصفها منظمات ليست إرهابية وحسب بل "تُفشل الأحلام".

بينما كان ترامب يمضي في حديثه، كان العراقيون منشدون وهم ينصتون للخطاب ويجسدون انقساما متجذرا يعكس صوره في الشارع حيث ظلال الولي الفقيه على الأرصفة كرابح ازلي في العراق فيما خسارته والحرس الثوري امام روحاني مدوية في شوارع طهران والمدن الإيرانية.

· صورة خارج الاطار

في مقابل ذلك كانت الكاميرات تسرق صورة لمساعد الرئيس الأميركي وكبير المخططين الاستراتيجيين والمستشارين ستيفن بانون وهو يجلس رفقة صهر ترامب جاريد كوشنر وبينهما وزير الشؤون الدينية السعودي صالح ال الشيخ احد احفاد محمد بن عبد الوهاب مؤسس الوهابية.

في تلك اللحظة كان ثمة مذياع في تكسي بولاية واشنطن يبث دروسا تشرح للامريكيين ما هي الوهابية كاحدى مذاهب الإسلام الراديكالي المتشدد، دروس بالانجليزية ضمن برنامج مكافحة الاسلاموفبيا، وفهم المذاهب الإسلامية، فيما كان الجمهور بالشرق الأوسط ماخوذا بالفرجة وربما مصدقا بما يقوله ترامب لزعماء الدول الإسلامية: اطردوا المتطرفين من أماكن عبادتكم وادحروهم.

الجواب الذي لم يتوقف عنده ترامب: الى اين يطردون؟ هل الى البحر؟ ام الى اوربا او اميركا التي قال ترامب أصلا منذ الشروع بحملته الانتخابية وبالذات في تشرين الثاني عام 2015 "لسنا محبوبين من قِبل العديد من المسلمين"، بل انه قال "الإسلام يكرهنا".

وبعيدا عن موجتين في الاعلام ناهضت الاولى القمة ونفخت الاخرى فيها، كان ثمة رابح هو ترامب والإدارة الامريكية بصفقات بـ 400 مليار دولار ورابح آخر بعلاقات استراتيجية تقيه في اول الطريق قانون جستا واستبدل الشعار "العدالة ضد رعاة الإرهاب"، بـ"المال يجلب الاعتدال" انها السعودية، امام خصم يربح في ساحته، ويكسب في ميادين غيره انها ايران، فيما ثمة خاسر وحيد يغادر التاريخ وهو لم يخرج بعد من عرس الدم انه العراق.

· احتواء قبل صدام مؤجل

يقول فريق من العراقيين: هل علينا فعلا ان نتذكر حكمة نوري السعيد "ان العراق بحاجة لشريك دولي قوي فهو يعيش بين الخصوم جغرافيا"؟
ولكن أي شريك هذا الذي يجب ان يقف معه العراق؟ اميركا التي ملت شريكا متشضيا، حتى ان إدارة الرئيس السابق اعتبرت ان الانسحاب الأمريكي من العراق خروجا من حفرة وصفها ترامب لاحقا بالفراغ الذي أُهدي الى ايران. ام انها ايران التي انتصر فيها الاصلاحيون وتجاهلها ترامب حتى الان بل استعداها باموال السعودية، وهي تفرض وجودها المحافظ بالعراق، وتغذي قوى خارج الدولة وسلطتها، حتى ان رئيس الوزراء حيدر العبادي لم يتردد قبل ساعات من استقباله وزير الطاقة السعودي ووزير الخارجية القطري في انتقاد جماعات قال انها تحاول الاحتيال عليه بحجة المذهب؟ بل انه شدد بنبرة مَنْ غير البوصلة باتجاه معاكس " لم نحارب الديكتاتورية لتحكمنا العصابات".

قال العبادي ذلك وهو يواصل سياسة الاحتواء في إدارة الملف الأمني وخاصة ملف فصائل لها غطاء حكومي وشعبي، وربما يؤجل الى حين لحظة الصدام القانوني لمنع تنامي سلطة موازية بدت تفاصيلها اكثر وضوحا في البصرة مثلا بعيدا عن الموصل وحتى عن بغداد.

يعي العبادي ذلك ويدرك ايضا أهمية قمة الإسلامية الامريكية وجولة ترامب بين الرياض وحائط المبكى وما تخللها من مواقف، لذا فهو يحرص على تعميق اثارها الترامبية بالنسبة له، خطوة ربما تكسر السلاسل التي تجذب بلاده بعيداً عن شراكات في لحظتها التاريخية مع السعودية وقطر والامارات، ربما تعززها جولة في عواصم هذه الدول لن تكون بيعيدا عنها القاهرة ولا انقرة المنسية في قمة الرياض، بما لا يتعارض مع علاقة العراق وايران.

· المهرج في الخيمة تاجر

فات المراقبين في حديث ترامب قوله ان "الشرق الأوسط كان لقرون موطنا للتعايش بين المسلمين واليهود والمسيحيين" أنْ ذلك كان المغزى الحقيقة لعنوان زيارته الأولى خارج الولايات المتحدة الامريكية كرئيس للبيت الأبيض، فهو الرئيس الأولى الذي يختار السعودية ثم إسرائيل ثم الفاتيكان مستهلا لزيارة أولى منذ رونالد ريغان إذ تعاقب الرؤساء السابقون على ان تكون الزيارة الأولى الخارجية بين المكسيك وكندا.

ولكن ترامب من الرياض وصف إيران براعي الإرهاب ومن إسرائيل وصف حزب الله بالمنظمة الإرهابية، ومن الفاتيكان هاجم داعش بلا شك بوصفه بيضة هولاكو التشدد الإسلامي الذي انتهك حقوق المسيحيين والأقليات في الشرق الأوسط وبالذات في العراق وسوريا، ليذهب الى بروكسل حيث قمتين للاتحاد الأوروبي وحلف الأطلسي وهناك سيقول للشركاء الحقيقين "هذه وصفة الشرق الأوسط".

هل تقتنع الولايات المتحدة بما سعى اليه زعماء عرب باستبدال الصراع من اجل الديموقراطية الذي تدعمه واشنطن كاولوية بالصراع المفتعل مع الشيعة؟ الشيعة الذين لا يتواجدون الا في دول قليلة في الشرق الأوسط، لا يريد ترامب ولا فريق مستشاريه ذلك ولن يسير وراءه انه امتدح العراقيين بما يشبه تقريعا للعرب ان سنة العراق وشيعته وكرده يقاتلون عدوا واحدا هو داعش وان جنودا الامريكان معهم، ترامب يشبه تاجر جملة، لا يرغب بشراء ولا بيع بالمفرد، هو أراد ترتيب السوق العالمية ومن الرياض بعيدا عن تل ابيب وعن الفاتيكان. انه يرسم الخطوة الاولى لتعديل مسار خاطئ يعرقل الامن العالمي ويفرض سطوة اللاعب العالمي الأقوى، رغم ان روسيا بوتين متوثبة في سوريا، وربما بعلم ودراية ترامب نفسه.

· احمر شفاه بنفسجي

في مقابل ذلك كان العراقيون بانتظار ان يشكرهم زعماء العالم انهم يخوضون حرب بالنيابة عن العالم مع الإرهاب، وهو ما لم يتمكن الرئيس معصوم من قوله.

ولكن أي عالم هذا الذي يشكرنا ونحن نشتمه منذ 14 عاما مرة بشعار مخاتل عنوانه (كلا كلا أمريكا) وأخرى بحرق أجساد لمقاولين على جسر في الانبار، الانبار التي يتنازع اليوم حكامها المحليون وسياسيوها على الاستفادة من عودة شركة اجنبية لحماية طريق دولي يربط العراق بالأردن.

أي عالم يشكرنا، ولا ننتمي له، ونحن نخلق زعامات تتناسل مع الازمات متماهين مع خطاب يسخر من أسلوب حياة العالم المتحضر وقد تعدد مجتروه، فيما الأرصفة تزدحم بصور شهداء حروب الأخطاء المجانية، هل هو العالم الذي صرنا نرفض نمط حياته، حتى ونحن نتفحص الفتيات الايرانيات المبتهجات بفوز روحاني وهن يرتدين فانيلات بيضاء تحمل صوره والبنفسج يلون شفاههن ويجمع بين ابتسامتهن وشعار حملته، والمتأيرنون من العراقيين خجلون من صورهن، تلك الصور التي تفضح قصة لا اندماجهم بحضارة ايران الحقيقة وان منهم من لم يستمع حتى لعود محمد اقبال ولا لناي حسن كسائي.

عنوان اخر للتمزق العراقي الاصرار على بقاء الأحزاب العراقية الطائفية والعنصرية بشكلها الحالي ولو ليوم اضافي واحد، تحدد رؤيتنا للعالم ورية العالم لنا، لان ذلك يعني الاصرار على استمرار تمزيق العراق ونهايته المؤجلة وربما المحتومة.

مضى ترامب صوب بروكسل مخلفا سؤالا كبيرا لدى العراقيين، هل العراق قادر فعلا على أن يكون محايداً فيما التجاذات داخليا تمزقه حين تتنافس احزابه بطابعها السني والشيعي والكردي على بث الفرقة والشقاق وﻻ تتنافس على وحدة العراقيين، الامر يتعلق بها حتما وبمدى الولاء لمستقبل بلاد توشك ان تغادر التاريخ حين تفشل في امتحان البراغماتية.