قلنا في البداية أن التاريخ ُيقرأ ثلاث قراءات مختلفة؛ يقرؤه بعضهم كما تبدو وقائعه ظاهريا أو كوقائع منعزلة لا رابط يربط بينها، ويقرؤه البعض الآخر قراءات ايديولوجية أو قراءات رغبوية، كما يرغب التاريخ أن يكون، والقراءة الثالثة وهي القراءة الماركسية التي تتم باستقراء القانون العام للحركة في الطبيعة وسيرورة نفي النفي أي أن المرحلة التاريخية الماثلة، المتمثلة بقوى الإنتاج إنما هي محصلة نفي المرحلة السابقة وستنفيها المرحلة اللاحقة. بمثل هذه السيرورة يسير التاريخ وتتغير قوى الإنتاج، وهكذا تكون القراءة الصحيحة للتاريخ وهي ما تعقبناها تحت عنوان "قراءة مختلفة للتاريخ" في المقالات السابقة مستهدفين الطعن في القراءات اللاتاريخية المتداولة عبر القرن المنصرم وحتى اليوم والتي تعمل على التغييب التام لقوى الإنتاج وللقراءة الحقيقية للتاريخ وهي القراءة العلمية الماركسية.
حدثٌ كوني مثل انهيار النظام الرأسمالي في السبعينات ويعقبه انهيار النظام الإشتراكي في التسعينيات، لا بل يسبقه في الخمسينيات، ودخول العالم بكافة دوله وأنظمتها المختلفة في حالة إرتباك وفوضى اجتماعية تغيب فيها كل القوانين والمعايير التي حكمت النظامين الرأسمالي والإشتراكي، ومع ذلك يتجاهله المؤرخون وكأن شيئاً لم يكن لا بدّ أن يثير الشكوك ليس في أهلية هؤلاء المؤرخين فقط بل وفي حياديتهم وهي شرط الترخيص لعمل المؤرخ. قد يحتج المؤرخون بادعاء أن تحلل النظام الإقتصادي الرأسمالي أم غير الرأسمالي هو من اختصاص علماء الإقتصاد والمحللين الإستراتيجيين قبل أن يصل إلى المؤرخين؛ إلاّ أن علم التاريخ لا يسند مثل هذا الإدعاء حيث أن التاريخ ما هو إلا صراع الطبقات الذي هو محرك التطور الإجتماعي ويكتب التاريخ؛ وإلا فما عساه يكون التاريخ إن لم يكن نفي النفي من خلال صراع الطبقات!؟ لكن المؤرخين في طول العالم وعرضه لم يقولوا لنا ما الذي نفى الاشتراكية في الخمسينيات أو حتى في التسعينيات وما الذي نفى الرأسمالية في السبعينيات.
حتى المفلسين من الشيوعيين الذين لم يعودوا يذكرون ماركس في خطاباتهم الفارغة من كل المعاني، وعديدون منهم يدينون بكل وقاحة لينين ويطالبون بمحاكمته لأنه غامر بثورة أكتوبر بغير مكانها وغير زمانها، هؤلاء المفلسون ومعهم كتبة البورجوازية وأخصهم كتبة البورجوازية الوضيعة يرفضون الإقرار بأن النظام الرأسمالي انهار في السبعينيات، مع أن البورجوازية الوضيعة هي أصلاً من أعداء النظام الرأسمالي وأسهمت بدور كبير في انهياره. عشرات الدول المحيطية التي كانت مصرف فائض الإنتاج المتحقق في المراكز الرأسمالية استقلت عبر ثورة التحرر الوطني العالمية 1946 - 1972 ولم تعد تصرف الفائض وهو ما حتّم انهيار النظام الرأسمالي في مراكزه. حدث كوني غير وجه العالم تجاهله المؤرحون الذين فقدوا التاريخ والشيوعيون المفلسون الذين غررت بهم القراءة الإيديولوجية للتاريخ!!

المؤرخون وهم موضوعنا الذي نكتب فيه، بعيداً عن الشيوعيين المفلسين الذي أشاحوا بوجوههم عن حقائق كبرى في انهيار الثورة الإشتراكية خشية الإفلاس فما زادهم ذلك إلا إفلاساً على إفلاس، هؤلاء المؤرخون، وحرفتهم شرطها الأول الموضوعية والحيادية، كانوا قد هللوا بفرح غامر بانحراف خروشتشوف كبداية لانتهاء الثورة الإشتراكية لكنهم خرسوا صامتين على رحيل ستالين المفاجئ رغم أن ربة منزله ملأت الفضاء صراخاً تدين الذين تناولوا العشاء الأخير معه من قادة الحزب باغتياله وكذلك فعل ابنه فاسيلي وشكك رفيق عمره مولوتوف بذلك؛ لا بل هم لم يخرسوا بل مالوا إلى التأكيد أن رحيله كان طبيعياً بفعل ضغط الدم وانفجار في شرايين الدماغ بالرغم من أنه ترك ليوم كامل بدون إسعاف طبي الأمر الذي يدل على فعل الإغتيال كما استنتج مولوتوف. وظل الصمت مطبقاً على اغتيال ستالين لنصف قرن، رغم أنه غير مسار التاريخ، حتى تشكلت لجنة مختصة من الأطباءالشرعيين الأمريكان والروس وتقصت كل التفاصيل المتاحة قبل أن تصدر تقريرها يقول باغتيال ستالين بسم الجرذان (warfarin). ومما يؤكد طعننا في هؤلاء المؤرخين هو أن تقرير هذه اللجنة المختصة من الأطباء الشرعيين الروس والأمريكان لم تغير حرفاً في تأريخ المؤرخين.

لئن تحجج المؤرخون بأنهم يؤرخون الوقائع وليس الشبهات نسوق لهم واقعة وقعت بعد موت ستالين بساعات قليلة وهي اجتماع العجزة السبعة في المكتب السياسي الذين كان ستالين قد طالب المؤتمر العام للحزب قبل ثلاثة أشهر بإبعادهم عن القيادة ولم يستجب المؤتمر للأسف لطلب ستالين، إجتمعوا سبعة أعضاء وطردوا 12 عضواً جديداً في المكتب السياسي ولا بد أن يكون ذلك قد صدر في الجرائد الرسمية. قد يُفترض أن المؤرخين لا يعلمون شروط النظام الداخلي في الحزب وأنه ليس هناك سلطة تقرر نزع العضوية من عضو المكتب السياسي إلا تجريم العضو بقرار صادر عن محكمة رسمية في محاكمة علنية، ولو أن هذا الإفتراض مستبعد، لكن كيف يمكن لسبعة أعضاء أن يقرروا طرد 12 عضواً!! وكيف يمكن إلغاء قرار للمؤتمر العام للحزب واللجنة المركزية للحزب ومنها المكتب السياسي منتخبة لتنفيذ مقررات المؤتمر العام للحزب وليس لإلغائها!! وأية لجنة مركزية تلك اللجنة التي تُستدعى في سبتمبر ايلول 53 لتقرر إلغاء الخطة الخمسية الخامسة التي كان المؤتمر العام للحزب قد أقرها كبرنامج عمل للحزب وللدولة خلال السنوات الخمس 1951 – 1955، تلك اللجنة التي انتخبها المؤتمر العام التاسع عشر للحزب لتنفيذ تلك الخطة وليس لإلغائها بالطبع!! كان ذلك هو الإنقلاب الفعلي والشامل على النظام الإشتراكي مما استدعى مالنكوف للإستقالة من مركز الأمين العام للحزب. المؤرخون لم يكتبوا حرفاً واحدا عن ذلك الانقلاب لربما لأنهم لم يعلموا أنه كان انقلاباً على الإشتراكية بل كان تحصيناً لأمن الاتحاد السوفياتي كما ادعى الإنقلابيون آنذاك، لكنهم يعلمون بالقطع أن إلغاء الخطة الخمسية ليس من صلاحية أية جهة إدارية أو حزبية بل من واجب مختلف الجهات الحرص على سلامة تنفيذ تلك الخطة وأن المؤتمر العام التالي للحزب سيحاسب المقصرين بتنفيذ كامل الخطة حساباً عسيراً. ولماذا لم يتشكك المؤرخون في دواعي الحرص الشديد للقيادة السوفياتية المحصورة آنذاك بعصابة خروشتشوف على أن تحفظ كل تفاصيل تلك الخطة في سرية مطلقة لا يجوز الإطلاع عليها إلا لرئيس الدولة، وما ذلك إلا لأن تلك الخطة بكل تفاصيلها وأرقامها المحددة الكثيرة كانت ستنقل الاتحاد السوفياتي إلى عتبة الشيوعية وفي رغد من العيش لم تعهده البشرية من قبل. وما كان أهم من ذلك كله هو أن الخطة كانت ستفضي إلى استعادة طبقة البروليتاريا قبضتها الحديدية على الدولة بعد أن تراخت وضعفت بفعل الحرب والخسائر الهائلة التي لحقت بالبروليتاريا دون غيرها.

المؤرخون كما الإعلام البورجوازي علموا بتقرير خروشتشوف السري بكل تفاصيله وطعونه بشخصية ستالين قبل انقضاء 24 ساعة، وزاد المؤرخون بأن أكدوا صدقية إدعاءات خروشتشوف الملفقة. أرّخوا كل تلك المزاعم والأكاذيب المنافية للحقائق وفاتتهم حقيقة رئيسية واحدة من شأنها أن تستحضر الطعن في صدقية ذلك البيان الذي لم يبيّن إلا خيانة خروشتشوف. في صباح 25 فبراير شباط 1956 أُعلنت نهاية المؤتمر العشرين للحزب وكان قد غادر المكان العديد من المندوبين عائدين إلى الأصقاع البعيدة من الاتحاد السوفياتي، إلا أنه تلا إعلان النهاية الإعلان عن جلسة إضافية غير مقررة طلبها خروشتشوف دون أن يعلم أحد أسباب تلك الجلسة الإضافية وغير الرسمية وعما سيدور فيها. ذهل الحضور بما سمعوه من خروشتشوف يطعن بشخص ستالين ايقونة العمل الشيوعي. ربما لم يعلم المؤرخون أن الحضور كمدوا غيضعهم ومنهم من غاب عن الوعي ومنهم من حبس حنقه بشد شعر رأسه بكلتا قبضتيه، كما نشرت الغارديان البريطانية في العام 2006، ربما لم يعلم المؤرخون ذلك، لكنهم علموا بالقطع أن الجلسة الإضافية ليست من أعمال المؤتمر وأن ما قيل فيها يخص خروتشوف شخصياً ولا يخص الحزب الشيوعي، أي أن الحزب لم يطعن بستالين بل ظل على تقديره الكبير بقائده العظيم باني الدولة الاشتراكية الأعظم في العالم مما اضطر خروشتشوف نفسه أن يعترف بذلك في مستهل خطابة يفتتح المؤتمر الاستثنائي الحادي والعشرون في فبراير شباط 1959 إذ قال.." حزبنا بقيادة ستالين لفترة طويلة تغلب على مختلف صنوف الأعداء وبنى لنا دولة اشتراكية عظمى نفاخر بها ". المؤرخون علموا بكل ذلك دون شك، علموا بأن خروشتشوف نفسه تراجع عن طعونه الكاذبة بستالين التي منذ البداية كانت نسياً منسياً عندما أعلن رئيس الجلسة نيقولاي بولغانين حال انتهاء خروشتشوف من إلقاء الخطاب العار عدم مناقشة الخطاب، لكن المؤرخين أنفسهم لم يتراجعوا. ولعل المؤرخين لا يعلمون بأن خروشتشوف لا يجيد الكتابة وأن أحداً من العسكر كان قد كتب له ذلك الخطاب الشائن. كان الخطاب نسياً منسياً بالنسبة للحزب إلا أن المؤرخين ظلوا يكررون أكاذيب خروشتشوف ويعيدون حتى باتت فاتحة خطابات الرجعية وأعداء الشيوعية وأن ستالين قتل 50 مليوناً!! 

الواقعة الكبرى التي تدين المؤرخين بالتخلي عن الموضوعية والحيادية وهما شرطا مهنة المؤرخ، كان الإنقلاب العسكري ضد الحزب الشيوعي. في أواسط يونيو حزيران 1957 اجتمع المكتب السياسي للحزب للنظر في مقترح خروشتشوف حول "إصلاح الأراضي البكر والبور" لكن المكتب وجد أن المشروع هو ردة رجعية تحيي خط بوخارين اليميني الخائن فانتهى المكتب إلى سحب الثقة من خروشتشوف بغالبية 7 أصوات إلى 2 فقط. ذلك القرار كان سيفضي إلى استعادة الحزب للقرار الوطني بعد أن استولى عليه العسكر بتعاون خروشتشوف معهم. لكن خروشتشوف لم يمتثل لقرار المكتب السياسي وهو أعلى سلطة في الدولة فبدل أن يتنحى عن الأمانة العامة للحزب وعن رئاسة مجلس الوزراء طلب من صديقه وزير الدفاع المارشال جوكوف القيام بانقلاب عسكري ضد الحزب فما كان من جوكوف وهو المرشح لعضوية المكتب السياسي إلا أن استحضر أعضاء اللجنة المركزية بالطائرات العسكرية من أقاصي الاتحاد السوفياتي بدعوة طارئة مستنجداً ضد مؤامرة تحاك ضد قيادة الحزب. اجتمع الذين استدعوا بصورة طارئة وقرروا طرد الأعضاء الذين سحبوا الثقة من خروشتشوف وبقي في المكتب السياسي إثنان فقط وهو ما دفع إلى مصالحة اثنين من المطرودين السبعة وهما بولغانين وفورشيلوف ليبقى الأول سنة والثاني سنتين في المكتب السياسيي قبل أن يستغنى عنهما. انقلاب فاضح في الدولة العظمى التي تمسك بزمام العالم لم يسترع انتباه المؤرخين!! ولا بد من الإشارة هنا وهي أن المؤرخين يعلمون علم اليقين أن اللجنة المركزية لا تجتمع إلا بدعوة من المكتب السياسي والمكتب السياسي لم يدعها وعليه فاجتماعها غير شرعي على الإطلاق، وأن اللجنة المركزية لا صلاحية لها بإلغاء عضوية المكتب السياسي التي لا يلغيها إلا قرار محكمة رسمية بالإدانة بالتجريم من خلال محاكمة علنية بالكامل.

لا يمكن تفسير تجاهل المؤرخين ذلك الحدث الجلل وقد أعلن عنه في الصحافة والراديو وقيل في أسبابه أن الأعضاء المطرودين اجتمعوا سرا لاتخاذ موقف معارض لمشروع خروشتشوف إصلاح الأراضي البكر والبور وهو عذر أقبح من ذنب ولكأن أعضاء المكتب السياسي ممنوعون من التشاور بين بعضهم في بحث مسائل هامة تتعلق بمصير البلاد أو حتى غير هامة وهامشية!! نقول لا يمكن تفسير تجاهل المؤرخين لهذا الحدث الجلل إلا من أجل اعتبار مشروع لينين في الثورة الإشتراكية مشروعاً فاشلاً وهو الرأي السائد حالياً يؤكده كتبة البورجوازية الوضيعة بينهم عدد من الشيوعيين سابقاً والمفلسين من الشيوعيين مستندين إلى افتراض كذبته الوقائع يقول أن حزب خروشتشوف هو نفسه حزب ستالين بينما كان حزب ستالين قد حقق نجاحات هائلة أما حزب خروشتشوف فقد توالت هزائمه الهائلة أيضاً وكان آخرها انهيار المشروع اللينيني وتفكك الإتحاد السوفياتي في العام 1991. الشيوعيون اليوم الذين يهاجمون ستالين ويطالبون بمحاكمة لينين ليسو قطعاً من حزب ستالين بل هم من حزب خروشتشوف المعادي لحزب ستالين.

وأخيراً بعد أن استنزف العسكر الوجه البلشفي لخروشوف ألقوا به إلى مستوعب الزبالة ونظموا انقلاباً عليه في أكتوبر 1964 مؤكدين أن حزب خروشتشوف ليس هو حزب ستالين.

(يتبع)