دعونا نتجاوز تصريحات الشيخ تميم حاكم قطر التي زعم فيما بعد أنها مفبركة. لم يعد يهم في الحقيقة، هل هي حقيقية أم مفبركة بعد تصاعد الأحداث وتطورها، هذا التطور الدراماتيكي الخطير. المهم الذي لا يمكن نكرانه ولا ادعاء فبركته هو أن هناك أزمة سياسية حادة لم يسبق لها مثيل بين السعودية وقطر، تدور في هذه الأيام. بغض النظر عن كون كاتب هذه السطور سعودياً، إن كان القارئ الكريم سيعطيني هذه المساحة، أجد الموقف السعودي واضحاً، بينما أهداف النظام القطري الحالي يُراوح بين الغموض ولا منطقية الغايات.

بعد تصريح الأمير محمد بن سلمان ولي ولي العهد ووزير الدفاع بأن إيران خصم لا يمكن التفاهم معه كأي خصم سياسي آخر، ومقولته التي أصبحت مثلاً : " خصم بهذا التفكير، كيف أتفاهم معه؟" اتضح للجميع أن المعركة بين السعودية وإيران هي معركة كسر عظم، لا صراع نفوذ. إيران قد أعلنت بكل صراحة وفي مناسبات متعددة أن العرب قد حكموا العالم الإسلامي لقرون، وأن الأتراك قد حكموه لقرون أيضاً، وأنه قد حان الوقت للعرق الفارسي الآري أن يحكم العالم الإسلامي. وكتاب الخميني ( الحكومة الإسلامية وولاية الفقيه ) يصرح بالعداء الشديد للمملكة ولكل دول الخليج ويعد بتصدير الثورة إليها، وكل ما رأيناه منذ اندلاع الثورة الإيرانية إلى أحداث بلدة العوامية الأخيرة يسير في نسق واحد وسياق متصل واضح لكل من له عينان وعقل.

لهذا يبدو لي موقف المملكة واضحاً. أما موقف النظام القطري الحالي، فهو في غاية الغموض، على الأقل بالنسبة لي. قطر بلد غني، أغنى من الإمارات العربية المتحدة ومن كل دول الخليج مقارنة بعدد السكان، وذلك بسبب وفرة الغاز الذي لم يتضرر سوقه كما تضرر سوق النفط. كان بإمكان قطر أن تقفز في العقدين الماضيين قفزات نوعية في مجالات التمدن والحضارة وتحقيق التنمية المستدامة والرقي بحياة المواطن القطري وتحقيق الأمن له. لكن الذي حدث هو أن حمد بن جاسم بن جبر آل ثاني رئيس وزراء و وزير خارجية قطر السابق، قد وضع للبلاد سياسية خارجية جديدة تنطلق من سوء ظن بالمملكة، بحيث يزعم أن المملكة لها مطامع في مقدرات قطر. لا أعتقد أن حمد بن جاسم كان مقتنعاً بما يقوله لكنه استطاع إقناع القصر بأن هذا هو الحال. ومع ذكائه المفرط إلا أن حمد بن جاسم لم يكن من النوع الذي يستطيع كتمان مشاعره تجاه الآخرين، سواء كان شعوراً بالمحبة أو شعوراً بالكراهية ولم يكن يبالي بما سيفكر به الغير في حال التعبير عن نفسه وقول ما قد يكون مسيئاً بالنسبة لأطراف أخرى. لذا صدم حمد بن جاسم العالم وهو يتحدث عن أحلامه في تقسيم السعودية، وإحلال قطر بحيث تصبح فيها زعامة العرب والمسلمين، وبحيث تكون مصدر القرار العربي والإسلامي، أحلام لا تتناسب مع حجم الدولة التي يمثلها. أحلام تحتاج إلى أن يتحالف مع تركيا بسنيتها العلمانية وإيران بتشيعها المعمم، لتحقيقها. هل يعتقد النظام القطري أن تركيا وإيران تنظران إليه كحليف أم كتابع ضعيف؟!

مع هذا، اختارت حكومة المملكة ضبط الأعصاب، بحيث تركت حمد لرغبته في أن يحلم كما يشاء، دون أن توقظه، ما دام أن المسألة تدور في دائرة الأحلام والخيال والفانتازيا، وما دام أنها لم تنتج شيئا غير انكشاف سذاجة حمد بن جاسم وسطحيته. سياسة خارجية تدور في فلك المشاغبات. لكنها أصبحت منذ 2011 مشاغبات خطيرة بحيث لم يبق ثورة لم تدعمها قطر ولم تتدخل فيها، بالمال ومن خلال طاقم قناة الجزيرة المأزوم، لدرجة أن عقلاء القطريين صاروا يخافون على وطنهم أن يأتيهم صاروخ غرب لا يدرون من أرسله لكثرة الأعداء الذين كسبتهم هذه السياسة الخارجية.

الشيخ حمد بن خليفة أيضاً شخصية غريبة، فبعد زيارته لبلدة أشيقر والتي أثارت الجدل وصدور بيان عن أهالي أشيقر بعدها ينص على غضب أهالي المنطقة من زيارة رأوا فيها محاولة لزرع الفتنة والشقاق، وأن "ولاءهم ثابت لـ آل سعود وأن محاولة اللعب على الوتر المناطقي والقبلي لن تنطلي عليهم بأي حال". بعد هذه الحادثة خرج تسجيل للشيخ حمد بن خليفة يدعي فيه أن جده السابع عشر هو الشيخ محمد بن عبد الوهاب مجدد الدعوة السلفية، فخرج بيان وقع عليه 200 شخصية من أسرة آل الشيخ يقولون إن الشيخ المجدد محمد بن عبد الوهاب له أربعة أبناء فقط هم حسن وحسين وعبدالله وعلي، وأن أبناء وأحفاد هؤلاء الأربعة معروفون والعهد قريب، ولا يعلم للشيخ حمد بن خليفة انتسابا للشيخ، كما أن البيان طالب أمير قطر السابق بتقديم إثباتاته إن كانت له دعوى. وأسرة آل الشيخ محقة في بيانها وفي دعواها لأنهم ما كانوا ليعترضون على حمد، لولا أنه انتسب إليهم وادعى أنه منهم. نعم، أسرة آل ثاني من قبيلة بني تميم، ومن فخذ الوهبة، لكنهم ليسوا من آل الشيخ، بل المعروف أن أسرة آل ثاني خرجت من نجد إلى قطر بسبب أنها كانت تملك موقفاً معارضاً لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وتحالفه مع الإمام محمد بن سعود. واقعاً، لقد كان حمد بن خليفة في غنية عن هذين الموقفين اللذين أساءا إليه وأظهراه بمظهر الكاذب صاحب المكائد والدسائس، ولم يقدما له أي فائدة.

هذه السياسة أنشأها عرّاب الثورات حمد بن جاسم وطبقها بحذافيرها الشيخ حمد بن خليفة وقد ورثها اليوم تميم بن حمد بن خليفة. لكن من حق كل عربي أن يسأل نفسه : ماذا جنينا من الثورات منذ اندلعت في 2011 وحتى هذه اللحظات؟ هل هناك مكتسبات تستحق تلك التضحيات؟ هل هناك أي مكتسبات على الإطلاق؟ كل الذي نراه أن هناك بضعة ملايين من العرب والمسلمين قُتلوا، وأضعافهم تشردوا وخسروا بيوتهم، حتى هانت في عيون كثيرين مصائب أهل فلسطين. وهناك حرب في سوريا لم تزل قائمة وهناك داعش والجماعات الإرهابية الأخرى لا زالت تشوّه الإسلام بكل صورة ممكنة لا زالت تسبي النساء وتقتل الأطفال، ومما لا شك فيه أن النظام القطري الحالي دعم كل هذا الإرهاب. بل إنه يشتري الذمم ويدفع الملايين للشخصيات المعروفة في السعودية ولنجوم شبكات التواصل الاجتماعي لكي يقوم هؤلاء النجوم وأتباعهم المستغفلون، بالدفاع عن قطر وعن قضاياها ولو كان على حساب الوطن. حسناً، هذا نجم تويتر قد قبض الملايين، فهو يدافع مقابل ثمن قبضه، لكن ما بال التابع الساذج يدافع بالمجان دون أن يشعر أنه يتخندق ضد وطنه؟!

ما هي مصلحة قطر في الانضمام إلى هذا المعسكر ودعمه بالمال الوفير الذي تدفعه؟ ما هي مصلحة قطر من تبني خط الاخوان المسلمين، تلك الجماعة التي فشلت فشلاً ذريعاً في معادلة الحُكم وموازنات السياسة واتضح أن كل تنظيرهم منذ 70 سنة كان مجرد حبر على ورق، كان صرحاً من خيالٍ فهوى. مصلحة قطر ليست مع جماعة الإخوان المسلمين، ومن الظلم لقطر ككيان سياسي أن يُربط مصيره بمصير جماعة غربت شمسها، أو أن تبقى أسيرة الخطاب الثوري الذي يتزعمه مستشار حاكم قطر للشئون السياسية د. عزمي بشارة، فهؤلاء الثورجية هم أول من يغادر المكان عندما تحتدم الأمور. مصلحة قطر مع أخواتها دول الخليج العربي وليست في التحالف مع إيران أو تركيا أو جماعة الإخوان. أنا أعتقد أن هذا هو الشعور الجمعي لدى غالبية الشعب القطري. علام يُراهن النظام القطري الحالي، خصوصاً ونحن نسمع أن الولايات المتحدة تعتزم استدعاء قاعدتها العسكرية من العُديد؟

يراهن النظام على أن قطر تمثل عمقاً استراتيجياً للمملكة والمملكة كذلك تمثل عمقاً استراتيجيا، بالنسبة لهم، ويراهن على عاطفة الشعب السعودي تجاه الشعب القطري. إنهم يعتقدون انه في النهاية : السعودية لن تغزوهم، ولا بد من التصالح في نهاية المطاف، كما حدث في أزمة ٢٠١٤ أثناء قضية سحب سفراء السعودية والإمارات والبحرين، القرار الذي لم يطل. لكن المشاغبة الجديدة التي بدأت قطر بالدندنة حولها منذ أيام، تختلف عن كل خطأ وقعت فيه قطر منذ تأسيسها إلى اليوم، إلا وهي قضية التقارب مع ايران.هذه ليست مشاغبة كالمشاغبات السابقة، هذه كارثة حقيقية على الخليج (العربي) كله، ولو سعت قطر للإتيان بقاعدة عسكرية إيرانية، فإن هذا سيكون بمثابة إعلان حرب ولن أعتقد أن السعودية ستتردد لحظة واحدة.

لطالما كانت السعودية طويلة البال جداً مع من تختلف معهم، والأمثلة على هذا كثيرة جداً، لكن هناك موضوع لا تسكت عنه السعودية أبداً ولا تنتظر، إلا وهو موضوع الأمن الحدودي والأمن الداخلي والأمن الوطني، بصفة عامة. تحت موضوع الأمن تضع السعودية خطاً أحمراً وتتدخل بكل قوة وضخامة وسرعة، لكي لا يُمس الأمن. ولهذا السبب تحديداً وبصفة جوهرية، قامت عاصفة الحزم، وستستمر مهما كلف الأمر حتى يتم اقتلاع آخر ظفر لإيران في اليمن. وبالتأكيد الذي لا يمكن تأكيده زيادة، أن السعودية لن تسمح بموطئ قدم للإيرانيين في أي مكان من جزيرة العرب، حتى وإن كلفها ذلك حرباً شعواء طويلة الأمد، ومهما تضخمت فواتير تلك الحرب.