الاستبداد في اللغة هو: غرور المرء برأيه، والأنفة عن قبول النصيحة، او الاستقلال في الرأي وفي الحقوق المشتركة. 

وعرف "مونتيسكيو" (المفكر الفرنسي وصاحب فكرة الفصل بين السلطات التي أصبحت من خصائص الحكم المتوازن في المجتمعات المتقدمة) الاستبداد: "بأنه ذلك الحكم المطلق الذي يمارسه حاكم بدون قانون ولا قواعد حكم وإنما حسب إرادته المطلقة ونزواته. هو نظام يتمتع فيه الحاكم بسلطة مطلقة لا يحدها قانون أساسي ولا قانون مدني ولا قواعد لتبادل السلطة أو خلافة الحاكم". ويقدم "مونتيسكيو" مثالا على الاستبداد: بأنه شبيهبالسكان البدائيين في لويزيانا، عندما يرغبون بقطف الثمار فإنهم يقطعون الشجرة ليسقطوها ثم يجنون الثمر، هكذا هو الحكم المستبد.

أما الشيخ "عبد الرحمن الكواكبي" في كتابه (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد) يقول: "يراد بالاستبداد عند اطلاقه استبداد الحكومات خاصة لأنها أعظم مظاهر اضراره التي جعلت الانسان اشقى ذوي الحياة، واشد مراتب الاستبداد التي يتعوذ بها من الشيطان هي حكومة الفرد المطلق الوارث للعرش، القائد للجيش، الحائز سلطة دينية. وكلما قل وصف من هذه الأوصاف خف الاستبداد الى ان ينتهي بالحاكم المنتخب المؤمن والمسؤول فعلا. وكذلك يخف الاستبداد كلما قل عدد الرعية، وقل الارتباط بالأملاك الثابتة، وقل التفاوت في الثروة، وترقى الشعب في المعارف. والاستبداد لا يزول ما لم يكن هناك ارتباط في المسؤولية لدى المشرعين، وهؤلاء المشرعون مسؤولون لدى الأمة، تلك الأمة التي تعرف انها صاحبة الشأن، وتعرف ان تراقب وان تتقاضى الحساب".

مفهوم الاستبداد يرتبط بمفاهيم أخرى عديدة تنتمي الى شجرته الملعونة، كالطغيان والتسلط والحكم الفردي المطلق والديكتاتورية والشمولية، وانه لا يقتصر على حاكم او نظام بعينه، وانما يمتد بشروره الى مختلف حياتنا وتفكيرنا وسلوكنا ومناهج تعليمنا، ويثمر ثماره المسمومة في كل ألوان التعصب والتطرف وادعاء امتلاك الحقيقة المطلقة التي نشقى اليوم بطغيانها على حياتنا، ونتوجس خيفة من اخطارها على مستقبلنا.

ماذا يفعل المواطن العربي عندما يجد ان القيم الإنسانية قد فقدت قيمتها في مجتمعه، وكيف يتصرف وهو يرى حضارته المأزومةيتزاحم عليها الأعداء لاقتلاع جذورها؟ إذا كان "العدل" هو غاية سعي الانسان في الغرب، فـ "الاستبداد" هو الداء وأصل البلاء في شرقنا العربي.

"العدل" هو البذرة التي غرسها حكماء وفلاسفة الإغريق منذ قرون طويلة في تربة الحضارة الغربية، فأثمرت شجرتها حرية وفكرا إنسانيا وعلما منهجيا وشغفا بالمعرفة لا حدود له وبحثا عن الحقيقة لا يتوقف. اما "الاستبداد" فهو الداء وأصل البلاء في الشرق العربي، والشجرة الملعونة التي لا نزال نمضغ ثمرها المر منذ منتصف القرن السابع للميلاد: قهر الحاكم للمحكوم، وخوف الحاكم من المحكوم، وتسلط بعضنا على بعض، وغدر بعضنا ببعض، وقتل بعضنا البعض، وتدمير اوطاننا، وفشلنا في تحقيق حلمنا بأن نعيش حياة حرة كريمة او سوية تليق بالإنسان. 

وقد تكلم بعض الحكماء لا سيما المتأخرون منهم في وصف الاستبداد ودواءه بجمل بليغة بديعة، تصور في الأذهان شقاء الإنسان كأنها تقول له: هذا عدوك فانظر ماذا تصنع. ومن هذه الجمل قولهم:"المستبد يتحكم في شئون الناس بإرادته لا بإرادتهم ويحكمهم بهواه لا بشريعتهم، ويعلم نفسه أنه الغاصب المعتدي فيضع كعب رجله على أفواه الملايين من الناس يسدها عن النطق بالحق والتداعي لمطالبته".

"المستبد عدو الحق، عدو الحرية وقاتلهما، والحق أبو البشر والحرية أمهم، والعوام صبية أيتام نيام لا يعلمون شيئا، والعلماء هم إخوتهم الراشدون، إن أيقظوهم هبوا وإن دعوهم لبوا وإلا فيتصل نومهم بالموت.

" المستبد يتجاوز الحد ما لم ير حاجزا من حديد. فلو رأى الظالم على جنب المظلوم سيفا لما أقدم على الظلم، كما يقال: الاستعداد للحرب يمنع الحرب".

"الاستبداد أعظم بلاء لأنه وباء دائم بالفتن، وجدب مستمر بتعطيل الأعمال، وحريق متواصل بالسلب والغصب، وسيل جارف للعمران، وخوف يقطع القلوب، وظلام يعمي الأبصار، وألم لا يفتر، وصائل لا يرحم، وقصة سوء لا تنتهي".

"المستبد يود أن تكون رعيته كالغنم دراً وطاعة، وكالكلاب تذللاً وتملقا".

إنه لمن الغريب والمحزن ان يكون العقل والفكر العربيان بهذا الوعي الكامل منذ فترة طويلة بخطر الاستبداد وسيئاته على تطور الأوطان ومستقبل الأجيال، وقياداتنا السياسية والدينية والاجتماعية لا تزال غارقة في الاستبداد، والشعوب عاجزة عن فك هذا القيد الثقيل المكبل لحرياتها والمعطل لإبداعها.